شعرية المكان في القصيدة البحرينية

  • 8/14/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يوسف أبو لوزتعود جذور الشعرية البحرينية إلى بيئة أسطورية، ومكان تاريخي له ثقافة أصيلة نابعة من حضارات عريقة، وأبرزها حضارة دلمون ومكانها البحرين وشرق الجزيرة العربية.. وبالقرب من هذا القوس الثقافي سوف تتصل حضارة دلمون بحضارات مجاورة مثل حضارة أم النار في الإمارات، وحضارة مجان في سلطنة عمان، وسوف تتردد هذه الروح الدلمونية في الشعر البحريني والعراقي والعماني. ويستعيد الشاعر في أفقه الخليجي العربي أصداء أسطورية أنثروبولوجية تعود إلى 2800 قبل الميلاد، ومن هنا، فهو يستند إلى إرث معرفي وثقافي يشكل له مرجعية لها خصوصيتها التاريخية. إلى جانب ذلك، فإن البيئة البحرينية هي بيئة شعرية، إذ تتلاقى فيها مفردات البحر، ومفردات الصحراء.. وقارئ الشعر البحريني القديم منه والحديث يلحظ أثر البحر بشكل خاص في الشعر، وهو أثر قائم في اللغة الشعرية الخليجية بشكل خاص.. والشاعر البحريني الذي تفيض قصيدته بأدبيات الماء وإشاراته من غوص على اللؤلؤ، إلى الغيابات الطويلة التراجيدية في البحر يجد صدى هذا الفيض في قصيدة الشاعر الإماراتي، أو العماني، أو الكويتي. إن شعرية المكان أنجبت بالتالي، «عائلة» إبداعية جذورها «دلمونية»، وفروعها بحرينية، وفضاؤها العام فضاء خليجي عربي استقبل حضارات الجوار مثل الهند وإيران، وتفاعل مع ثقافات شرق آسيوية على نحو إيجابي، ليرث الشاعر الخليجي، بالتالي، تنوعاً أدبياً عَمَّقَ تاريخيته الأدبية ومدّها بفلسفات شرقية كبرى.هذا جانب موجز من الإرث والجذر البحريني، وسوف نستحضر هذه الخصوصية دائماً ونحن نقرأ الشعر البحريني، وفي خلفية هذه القراءة أسماء ريادية، بل، ثمة رجالات علم، وثمة أعلام كبار في الأدب والفكر كان لهم الفضل في السبق الثقافي والمعرفي والتعليمي، وحتى الاقتصادي والبرلماني الذي حققته البحرين مبكراً بين دول مجلس التعاون الخليجي.لقد نشأت في البحرين مؤسسات مدنية وثقافية تعود في ظهورها الزمني إلى عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، وعلى مستوى الشعر تخبرنا المراجع الثقافية البحرينية أن الشاعر تقي محمد (مواليد 1930) كان من أعلام الشعر البحريني في خمسينات القرن العشرين، وتشير المصادر الخاصة بتحولات الشعرية البحرينية إلى أن شعراء، بل أدباء البحرين بشكل عام كان اتصالهم بأدباء العراق أكثر من أي بلد عربي أو خليجي آخر، وجاء في التقرير العربي التاسع للتنمية الثقافية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي (2016) أن الكثير من شعراء البحرين وشاعراته تعود تواريخ ولاداتهم إلى الأربعينات من القرن العشرين، أي أن مادتهم الأدبية، أو أن خطابهم الأدبي الإبداعي ظهر بكل مكوناته ومرجعياته وهويته الثقافية في الستينات من القرن العشرين، تحديداً أواخر الستينات، وأوائل السبعينات.. وتشكل هذه الفترة امتداداً إبداعياً لمرحلة الأربعينات والخمسينات، حيث تحول الشعر العربي 180 درجة بعد ما يمكن تسميته «ثورة» قصيدة التفعيلة، ثم ثورة قصيدة النثر، وعلى مستوى قصيدة النثر تكون البحرين من أول دول الخليج العربي في تشكيل بيئة ثقافية خاصة ومرحبة بهذه القصيدة المتحررة كلياً من الوزن والقافية.في ضوء ذلك، نتحول إلى خريطة الأسماء الشعرية البحرينية.. وإذا كان من فرز أو «تحديد» زمني لهذه الأسماء، فمن المعروف أن «الكتلة الشعرية» الأولى من الشعراء على مستوى الحداثة الشعرية تتألف من: علي عبدالله خليفة، قاسم حداد، مرسول العصار، حمدة خميس، علي الشرقاوي، عبدالفتاح سمك، أحمد الشملان، عبدالحميد القائد، علوي الهاشمي، ومنى الغزال، وإيمان أسيري.هناك كتلة شعرية بحرينية تالية زمنياً تتألف من: د. خليفة بن عربي، علي إبراهيم، وحسن جعفر، ثم كتلة تالية أخرى تتألف من: حسين فخر، ضحى المسجن، زهراء المتغوي، إيمان عبدالنبي.من رواد الشعر في البحرين الشاعر إبراهيم العريض، وقد ولد في العام 1908، وتوفي في العام 2002، واللافت في تجربة هذا الشاعر الرائد أنه مبكراً كان يكتب بالأوردو، وبالإنجليزية، ومن اللافت أيضاً مرونة هذا الشاعر «الكلاسيكي» تجاه الحداثة الشعرية مبكراً، وله موقف متقدم بهذا الخصوص أوضحه للإعلامي عبدالوهاب قتاية في حوار قديم معه.. يقول العريض.. «.. موقفي بالنسبة إلى الشعر الحديث، وأنا أعني الشعر العالمي الحديث، هو أنني أعتبره تطوراً طبيعياً جرى له، وهذا التطور أصلاً نشأ لأن المسافات زالت، والمجال أصبح ممكناً للاتصال بين الأمم..».أما الرائد الآخر الشاعر عبدالرحمن رفيع (1938-2015) وهو يزاوج بين الشعر الشعبي والفصيح، فهو الآخر يمتلك من المرونة الشعرية، بحيث كان يشكل ما يشبه الظاهرة الشعرية ليس في البحرين فقط، بل، وفي الخليج العربي.. مع اهتمامه الواضح بقصيدة الفصحى.. يقول : ما من شك أن الكلمة الفصحى هي أكثر خلوداً، لكن نطاقها ضيق.. أما الكلمة العامية فجماهيرية.. ومن المعروف أن أول ديوان للشاعر عبدالرحمن رفيع كان بعنوان «أغاني البحار الأربعة» وكان بالفصحى.هذان الرائدان في البحرين وعند ظهور قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر لم يعطيا مواقف حادة أو طاردة للشعر الجديد عربياً، وفي البحرين، فيما حورب التجديد التفعيلي والنثري في الكثير من دول الوطن العربي، واعتبر شاعر قصيدة النثر بشكل خاص خارجاً ليس على قانون الخليل بن أحمد الفراهيدي فقط، بل هو خارج أيضاً على القانون المدني أو الاجتماعي.. إلى هذا الحد وصل «التكفير» الشعري في مرحلة من المراحل، غير أن مثل هذا التعصب للعمودي الخليلي لم يكن موجوداً في البحرين، وهذه نقطة في غاية الأهمية، لأنها تمهد لنا الحديث عن قصيدة النثر في البحرين بسهولة، وقصيدة النثر في البحرين ظاهرة إبداعية سابقة على أية ظواهر حداثية جديدة في الخليج العربي، ومرة ثانية، فإن رواد الشعر البحريني الكلاسيكي لم يسعوا إلى وأد قصيدة النثر (ذات الجذر الدلموني).. وإلى جانب هذه النقطة المهمة، هناك نقطة ثانية لا تقل أهمية؛ وهي أن الصحافة الثقافية البحرينية تبنت مبكراً التجديد الشعري الحديث عربياً وبحرينياً، وكانت تلك الصحافة تصدر عن وعي فكري أولاً يعود للقائمين عليها.. أي أنهم مثقفون أولاً وأخيراً، ومثل هذا الوعي كان بيئة مثالية لقصيدة النثر في البحرين، ومن أبرز رموزها في المملكة الشاعر قاسم حداد الذي تأثر به عدد ملحوظ من شعراء دول مجلس التعاون الخليجي، وكانت أيضاً، تجربة قصيدة النثر البحرينية موضع حفاوة من جانب عرّاب شعري كبير مثل «أدونيس».إذا كانت قصيدة النثر البحرينية تشكل ظاهرة أو ما يشبه الظاهرة الشعرية في البحرين أو في الخليج العربي، وأيضاً، إذا كان رواد الشعر البحريني الكلاسيكيين «أصدقاء» للنثريين بما يشبه الظاهرة.. فإن ظاهرة ثالثة لا بد من الإشارة إليها في الأفق الشعري البحريني، وهي تحول عدد من الشعراء إلى النقد الأدبي، وتحديداً نقد الشعر.. وتحديداً أيضاً نقد الشعر البحريني، ومن هؤلاء الشاعر د. علوي الهاشمي مواليد 1946، صاحب مجموعة شعرية مبكرة ومعروفة وجميلة اسمها: «من أين يجيء الحزن»، وله مجموعتان شعريتان أيضاً هما: «العصافير وظل الشجرة»، و«محطات للتعب» وكتب د. الهاشمي في نقد وقراءة وتوصيف الشعر البحريني، «ما قالته النخلة للبحر»، و«السكون المتحرك»، وأخضع التجربة الشعرية البحرينية لمختبر بحثي نقدي متخصص أفاد ثقافة زملائه الشعراء، وأفاد ثقافة بلاده، ومما توصل إليه د. الهاشمي في قراءاته الحرة للشعر البحريني قوله.. «.. إن المرأة عنصر مهم جداً في مسار التجربة الشعرية عند الشاعر، فإذا فشل الشاعر في تجربته مع المرأة ولم يكن واعياً لهذا الفشل، فإنه يمنى في تجربته الفنية بفشل موازٍ، وهذا ما اكتشفته عند الشعراء البحرينيين».النموذج الثاني في تحول شعراء بحرينيين من القصيدة إلى النقد هو د. خليفة بن عربي، الذي قرأ التجربة الشعرية البحرينية، وأكثر من ذلك عاين الشعرية الخليجية عموماً في كتابه «الاتجاهات النقدية في الشعر الخليجي» بمنهج نقدي استقصائي للعديد من الظواهر أو الإشارات الابداعية الاستثنائية في الشعر البحريني والخليجي.الشعرية البحرينية منفتحة دائماً على التجديد، وقد استفادت من التيارات الأدبية الفنية والطليعية في العالم، وكرست وضعاً ثقافياً جميل الخصوصية في مملكة البحرين.

مشاركة :