شكلت الحداثة الشعرية وأسئلتها واحدا من الالتباسات الفكرية في العقل النقدي العربي، ومرجع هذا الالتباس يعود إلى استمرار التحول في الأنماط الشعرية وإلى وجود جدل العلاقة بين القديم والجديد، يدافع فيه القديم عن كيانه مقابل محاولة الجديد إثبات وجوده، ودخلت قضية ريادة الثلاثي المصري (محمود سامي البارودي، أحمد شوقي، حافظ ابراهيم)، في هذا الاطار من الجدل بعد أن اختلف بعض النقاد والمفكرين وفي مقدمتهم الشاعر (أدونيس) والناقد المغربي محمد بنيس مع الموقف العام المؤيد لريادة الثلاثي المصري في الشعر، وكانت طروحاتهما تمثل خلخلة الرأي شبه القار في النقد العربي التقليدي الداعي إلى تكريس فكرة انطلاق الحداثة الشعرية العربية على يد البارودي وشوقي وحافظ وجاء موقف أدونيس استنادًا إلى فكرته المغايرة لمفهوم الحداثة والذاهبة إلى أنها عملية تقويض وهدم للأنماط التقليدية في الشعر، لذلك رأى أن الثلاثي المصري لا يمثلون الحداثة، بل يمثلون عملية التكريس التاريخي للقصيدة التقليدية العربية. وقد ذهب الناقد المغربي محمد بنيس إلى هذا الاتجاه أيضًا من دون أن يعلل أسباب رفضه قبول فكرة ريادة الحداثة على يد الشعراء المصريين، ويبدو أن أسباب الجدل بشأن هذا الموضوع تعود إلى زوايا النظر والمنطلقات الفكرية المختلفة التي أنتجت التعارض الفكري بشأن الحداثة في التاريخ الأدبي العربي، ولكن هذه الاختلافات مع حدتها ومحاولتها القبض على جوهر مفهوم الحداثة في التعليل والتحليل النظري لم تنظر إلى الاسهامات العميقة في تحولات البنية الشعرية العربية التي أحدثها الاتجاه الرومانسي في القصيدة العربية، بل اكتفت بتناول تحولات الشعر العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وجاء هذا الاكتفاء على الرغم من خطورة الاتجاه الرومانسي في الشعر العربي الحديث. وهذا الاتجاه بدأ متعاضدًا في تحولات القصيدة العربية من خلال مدرستين شعريتين عربيتين، الأولى ولدت خارج الوطن العربي وتغذت من تأثيرات الأدب الغربي وتحولاته، ونقصد المدرسة المهجرية في الشعر، والثانية ولدت في الوطن العربي ونقصد مدرسة الديوان (إن صح تسميتها)، وخاصة فيما يتعلق بالتفوهات النقدية بشأن الشعر العربي، وفي هذا الصدد نرى أنه على الرغم من الأثر المهم الذي أحدثته مدرسة الديوان في التنظير للقصيدة العربية الحديثة، إلاّ أن المدرسة المهجرية كانت أعمق وأكثر جرأة على الموروث التقليدي العربي في الجانبين التطبيقي والنظري، في حين لم تقدم مدرسة الديوان أمثلة تطبيقية لإطروحاتها النظرية، أما المدرسة المهجرية فقد عمدت إلى المطالبة بضرورة الانقضاض على الوزن والقافية ورسمت أشكالًا شعرية جديدة للقصيدة العربية تتلاءم مع العصر الجديد كما تدعي، وذلك في ضوء معطيات الاتجاه الرومانسي. وكان هذا الموقف مدعاة لاندفاع القوى التقليدية في الشعر العربي نحو مهاجمة المهجريين ودعواتهم، لأن تلك القوى عدّت دعوات المهجريين نوعًا من التمرد والخروج على حقيقة الشعرية العربية، وظل الجدل بشأن هذا الموضوع قائمًا حتى ثلاثينات القرن العشرين بعد ولادة (مدرسة أبولو) في مصر وتكريسها تبني الرومانسية في القصيدة العربية، وصولًا إلى العقد الستيني من القرن العشرين الذي شهد رسوخ قصيدة التفعيلة وإطارها النظري في الوطن العربي إثر ولادتها بعد منتصف الاربعينات في العراق، وقد تكرس في ضوء تلك الولادة الاتجاه الرومانسي في الشعرية العربية، الأمر الذي جعل ذلك الاتجاه يتخذ بعدًا تقويضيًا في الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي، وإزاء هذه التحولات عرفت المراكز الشعرية في الوطن العربي صراعًا بين التقليد والتجديد امتد إلى التخوم الشعرية في العالم العربي. وقد عرفت البحرين ذلك الصراع من خلال التحولات الداخلية التي طرأت على القصيدة التقليدية ذاتها، فالشكل الشعري لم يكن مطروحًا في العقدين الأربعيني والخمسيني من القرن العشرين، لكن التوجه نحو الرومانسية كان هو البديل للشكل الشعري الجديد وهذا ما جعل عملية التحول نحو الحداثة سلسلة وهادئة في القصيدة البحرينية، وهذه السلاسة كما نرى عائدة إلى الوعي المرن في بنية الثقافة البحرينية، وفي هذا الصدد تشير مدونة التاريخ الادبي المعاصر في البحرين والوطن العربي على أهمية الشاعر ابراهيم العريض في شعر الحداثة في القصيدة البحرينية وأجمعت الدراسات النقدية والتاريخية على ريادته الحداثة الشعرية، وفي هذا الصدد وصف عدد من النقاد البحرانيين والعرب القصيدة التي كتبها العريض على أنها ممثلة الحداثة الشعرية ووضعتها ضمن الاطار الرومانسي الذي ينهل موضوعاته من الاثر الذي تتركه الحياة والطبيعة في الشعر. ولعل الوصف الذي اشار اليه الدكتور علوي الهاشمي في كتابه (ما قالته النخلة للبحر) وتناول فيه الشعر المعاصر في البحرين ما يؤكد ان العريض على الرغم من الاتجاه التقليدي في شعره إلا أنه طالما نهل موضوعاته من الطبيعة وايحاءاتها من خلال تأملها وانتاج فن معاصر في قصائده، يقول الهاشمي: (انّ العريض وهو ينظر الى الطبيعة من خلال عيون الراعي فيصفها هذا الوصف المستقصي الدقيق يبدو كأن كل شيء متصل به اشد الاتصال). إن التفاعل والتمازج بين الذات والموضوع في قصائد العريض هي التي جعلت النقاد يتجهون إلى تسميته برائد الرومانسية في القصيدة البحرينية، ولكن هذا الموقف بحاجة إلى تعليل فكري، وعملية التعليل كما نرى تستند إلى أن الادراك الجمالي الذي وصل اليه الشاعر ابراهيم العريض في التماهي مع الطبيعة ودقائقها والتعبير بروح تعكس الذات ولا تكتفي بالوصف هو لحظة الانفصال التي بدأت في شعر الحداثة البحريني مع الموروث التقليدي، ولكن ذلك الانفصال لم يكن كاملًا، لأن النمط الشعري التقليدي في التشكيل البصري هو الذي احتوى الاتجاه الرومانسي في قصيدة العريض، ولم يكن بالإمكان إحداث عملية انفصال كلية لأن الوعي الجمالي عند المتلقي البحريني لم يصل إلى مستوى القبول الكامل للحظة الانفصال، من هنا تبدو مرحلة الحداثة في القصيدة البحرينية ممثلة لولادة طبيعية من رحم القديم من دون أن تقطع الحبل السري مع القصيدة التقليدية.
مشاركة :