لا يمكن أن تنظر إلى حضارةٍ ما أو شعب من الشعوب دون أن تنظر إلى جملة الفنون التي تتميَّز بها تلك الحضارة أو ذلك الشعب, وذلك لأن الفنون تُعد أحد مقومات وعناصر الحضارة, لذا نجد أن الفيلسوف جورج هيجل كان ينظر للفنون على أنها أحد مصادر الحضارة. على سبيل المثال عندما تسمع مِصر أو يذكر أحدهم لك أنه زار مِصر, فإنه حتماً سيأتي في مخيلتك عبد الحليم حافظ أو الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب أو كوكب الشرق أم كلثوم, تلك الأسماء التي خلَّدها التاريخ لا يمكن أن يختلف على جمال فنها أحد! فالجمال يُعرف بما ينتج عنه وما يُحدثه من تأثير في نفوس الكثير.ويُعد الجمال من أهم القيم التي تتناولها الفلسفة القديمة والحديثة، وكأي مفهوم من المفاهيم الفلسفية أو حتَّى العلمية نجد تعدد واختلاف الآراء, فمثلاً نجد سقراط يرى أن الجمال يتحدَّد بمقدار نفعه للإنسان والحياة, وبناءاً على هذا الرأي ستكون الشيلات من فئة القبيح, حيث لم نشاهد إسهاماً لها سوى تأجيج للعنصرية بين أبناء المجتمع، بالإضافة إلى مؤثراتها الصوتية المزعجة والتي تبعث القلق في النفوس! رغم أن كل إنسان حر فيما يسمعه ويهواه، إلا أنَّ ما يثير السخرية هو عندما يُنكر عليك أحد هواة الشيلات استماعك للموسيقى مُعلِلاً لذلك بأنها من المحرَّمات!أنا لا أريد أن أخوض في مسألة الحكم الشرعي والاختلاف بين الفقهاء في الماضي والحاضر, لأنني لستُ متخصصاً في علم الشريعة ولأن هذا الموضوع أُشبع بالحديث, ولكن إن كان المقياس للتحريم هو مدى الضرر على الإنسان, فإن الشيلات أولى بالتحريم من الموسيقى للأسباب التي ذكرتها آنفاً, ومن خلال ما ينتج من هذه الشيلات من مظاهر قبيحة فإنه يمكننا أن نصف معظمها بأنها من فئة القبيح.على العكس من ذلك نجد الموسيقى, وإن كان للجمال لغة, فإن الموسيقى هي لغة الجمال! على الرغم من أن البعض يرى أن هناك فرق بين الجمال والفن، إلا أن هذا هو سر عظمتها حيث اكتسبت رُقيها وعظمتها بأن تمثَّل الجمال والفن فيها، جمالها فيما تورثه من سموٍ للمشاعر وزرع للمحبة في النفوس، وفنها يكمن في روعة آلاتها وإبداع ألحانها.الموسيقى نِتاجُها السلام والتناغم, الموسيقى تعلم الحب وتعلم النظام والانضباط وتقوي الدافعية وتثير الحماس, كل ذلك يتوقف على حسب نوع الموسيقى, فمثلا الموسيقى الهادئة تولد الاسترخاء والهدوء, والموسيقى الحماسية أو الوطنية تقوي شعور الانتماء والاعتزاز, وقس على ذلك من أنواع الموسيقى الأخرى.وإن من يتأمل في واقع مجتمعنا السعودي وخصوصاً في البيئة التعليمية, يرى كره الطلاب والطالبات للمدارس بشكل عجيب, لن أقول طبعاً أن الموسيقى هي السبب الوحيد, لكن بلا شك أن غياب الموسيقى هو أحد أهم هذه الأسباب.حيث إن حضور الموسيقى ليس في مؤسساتنا التعليمية فحسب, وإنما حضورها وتواجدها في مجتمعنا بشكل عام, سيجعل المجتمع والأفراد في أفضل حال, ويكفي ما نراه من فساد في الذائقة الفنيِّة لدى الكثيرين بسبب غيابها.حيث كان يرى الفيلسوف اليوناني أفلاطون أن للموسيقى أهمية كبيرة في ميدان التعليم, وذلك لقدرتها على التغلغل في النفس والتأثير فيها بعمق, وأن التعليم الموسيقي عندما يتم تعليمه على أحسن أداء فإنه يتيح للنفس أن تكشف عن مظاهر النقص والقبح.ورحم الله حجة الإسلام الإمام أبا حامد الغزالي عندما قال: “من لم يحركه الربيع وأزهاره, والعود وأوتاره, فهو فاسد المزاج, ليس له علاج”, فكأن الغزالي رحمه الله يريد أن يقول لنا أن الموسيقى هي مما جُبِلت النفوس على حبها.وإنني أُشبِّه الحفلات الغنائية والموسيقية باللقاح الطبي, فكما أن اللقاح الطبي ضروري لحمايتنا من بعض الأمراض, فكذلك الحفلات الغنائية تقوم بدور اللقاح في حماية الشباب والمجتمع من الفكر المتطرف وجميع الأفكار التي تؤدي إلى كره مختلف مظاهر الفرح والحياة, ثم إنه لو لم يكن من محاسن هذه الحفلات الغنائية إلا أنها ستقوم بجذب الشباب واحتوائهم لكفى بها ذلك.وإذا كان الإنسان اجتماعياً بطبعه كما يرى ابن خلدون, فإنه كذلك يعشق بطبعه الموسيقى وكل الأصوات الجميلة كأصوات الطيور وخرير الماء وغيرها, وكما أن الجسد بحاجة للغذاء والشراب لكي يبقى سليماً, فإن النفس كذلك تحتاج إلى الغذاء, ولكن بما أن النفس غير مادية فإن غذاؤها كذلك لابد أن يكون غير مادي, ومن أهم الأغذية التي تغذي النفس وتجعلها في أفضل حال هي الموسيقى, وإن من يرى حرمة الموسيقى فكأنه يُحرِّم الغذاء والشراب! وهذا بالطبع لا يتصوره إنسان عاقل بغض النظر عن الحكم الشرعي, لأن الجسد يحتاج بالضرورة للغذاء والشراب لكي يكون مستقراً, كذلك النفس تحتاج بالضرورة إلى ما يجعلها تستقر.والإنسان ليس جسداً فقط, وإنما عندما خلقه الله جعله محتوياً على ثلاثة أركان, هذه الأركان الثلاثة هي الجسد والنفس والروح, وكل ركن من هذه الأركان لابد أن ينال حقه من الكفاية والإشباع, فالجسد إن لم يحصل على الغذاء والشراب بالطبع سيهلك أو سيضعف في وظائفه, كذلك النفس والروح, إن لم يحصل كل ركن منهما على حقه سيحدث الاضطراب وعدم الاستقرار, وعندما نقول النفس فإننا نقصد بها وبحسب تعريف الدكتور أحمد عكاشة: مجموعة الوظائف العليا للدماغ أو الجهاز العصبي المركزي وهي التفكير والوجدان والسلوك, أما الروح فبحسب عقيدتنا الإسلامية فإن الله جعلها من علم الغيب, قال تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا), ولكنه سبحانه وتعالى لم يُخفِ عنَّا طريقة غذاؤها ومصدر قوتها الذي يتمثَّل في طاعته سبحانه والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه.ختاماً أود أن أشير إلى أمرٍ ما, وهو أنه على الرغم من عدم توفر بيئة فنية مناسبة في مجتمعنا السعودي, إلا أنه خرج من مجتمعنا قامات فنية تفوَّقت وتصدَّرت في العالم العربي, طلال مداح رحمه الله, ابتسام لطفي, محمد عبده, راشد الماجد, عبادي الجوهر, وغيرهم كثير, فكيف لو تم توفير المناخ المناسب!؟للأسف أغفلنا تلك الرموز العظيمة, وبرز لدينا منشدي الشيلات! بدلاً من أن نجعل الفن السعودي مرتبطاً بطلال مداح أو محمد عبده, أصبح البعض عندما تُذكر على مسامعه السعودية تخطر في باله الشيلات!لذا فإنني أرجو وأتمنى من وزارة الثقافة والإعلام أن يكون هناك تخليداً لرموزنا الفنية, كإنشاء معاهد موسيقية أو مسرحية تحمل أسماءهم, لكي نُعرِّف المجتمعات الأخرى برموزنا الفنية الراقية, وأرجو كذلك منهم حماية مجتمعنا من مفسدي الذائقة الفنية(منشدي الشيلات) من خلال تقنينها ومنع ما يثير النعرات القبلية بين أبناء المجتمع.الرأيخالد تركي آل تركيكتاب أنحاء
مشاركة :