تبدو التيارات المتحدرة من إرث الماركسية العربية وحركات التحرر الوطني منقسمة إلى معسكرين متنافرين حول الإمبريالية والحداثة، وقد حلت الحداثة في العقود الأخيرة مكان الرأسمالية في النقاش العام، كجزء من تحول الاهتمام من البنى الاقتصادية وأنماط الإنتاج إلى النظرية الثقافية. المعسكر الأول هو معسكر المناهضين للإمبريالية، وأصحابه عادة من ذوي المزاج الجيو-استراتيجي. بالنسبة لهم، فإن الإمبريالية هي العدو الأساسي والصراع معها هو الصراع المركزي الذي يحكم كل صراع آخر ويحدد موقعه، ويصدق هذا أيضاً على التحالفات، فالموقف من الإسلاميين والقوميين وغيرهم يحكمه موقفهم من الإمبريالية. بالتأكيد يرث هذا التيار تقليداً طويلاً داخل الماركسية وحركات التحرر الوطني في معاداة الإمبريالية ودورها في استعمار الشعوب واستغلالها. غير أن ما يميز هذا التيار اليوم، وقد عُزز بمقاربات ما بعد استعمارية والعداء للاستشراق ونظريات تحليل الخطاب والسلطة، عن الماركسية الكلاسيكية هو غلبة مقاربة أحادية للإمبريالية عليه، حيث تتحول الإمبريالية إلى تجسيد للشر. فالإمبريالية لم تعد تحيل وحسب إلى نمط إنتاج يقوم على القهر بل إلى نظام قيمي وأخلاقي ومعرفي شرير، فلا تكتفي باستغلالنا وحسب بل تستعمرنا ثقافياً ومعرفياً وأخلاقياً. المعسكر الآخر هو المعسكر الحداثي، ويغلب على أصحابه المزاج الثقافي، فيغيب التحليل الطبقي في شكل كبير عن أعمالهم لمصلحة مقاربات ثقافية وقيمية. بالنسبة لهم تقف الحداثة، وهي تحيل إلى التقدم والحرية والعقلانية وكل ما هو إيجابي، في مواجهة التقليدية والأصولية واللاعقلانية والغيبيات وهلم جرا. الصراع الأساسي هو بين الحداثة والتقليد، وكل نزاع آخر يجب أن يُحدد موقعه بالإحالة إلى هذا الصراع الأساسي. يستند هذا التيار إلى الماركسية باعتبارها فلسفة للتقدم، تنافح عن العقلانية والتنوير والحرية. بسبب غياب القوة الذاتية التي تمنع أياً من أنصار هذين المعسكرين من التأثير في مجريات الأحداث ولعب دور في تحديد الخيارات السياسية للناس فإنهم غالباً ما يُستخدمون وفي شكل أداتي تماماً من طرف حلفائهم، وبمعزل عن رغبتهم الذاتية وانحيازاتهم الخاصة. ينتهي التيار الأول إلى التحالف مع أعداء ومناهضي الإمبريالية، وهم في حالتنا المعاصرة خليط من تيارات أصولية وطائفية منخرطة في مشاريع اقتتال طائفي وكذلك أنظمة حكم فاسدة ومستبدة، تدافع عن نفسها بخليط من دعاوى الخصوصية الثقافية ومناهضة المركزية الأوروبية والإمبريالية وكل ما يصل إلى جعبتها لخدمة بقائها وحفظه. وهل هناك أفضل من خطاب يعقلن كل هذه الحجج ضد الإمبريالية، كما تتجلى في مؤسسات حقوق الإنسان مثلاً، وينظمها مثلما يفعل هذا المعسكر؟ في المقابل، فإن المعسكر الثاني ينتهي هو الآخر الى خدمة حليف مغاير، متمثل في الإسلاموفوبيا في دول المركز الأوروبي وأنظمة الاستبداد المدعية للعلمانية والتقدمية في مواجهة الأصوليين والظلاميين. في سياق هذا النزاع تتجلى الحاجة الماسة لاستعادة تراث الماركسية حول الإمبريالية كما هو بقدر الإمكان. على رغم أن المعسكر المناهض قام بتقديم صورة حرب مطلقة ومفتوحة مع إمبريالية شريرة وأحادية البعد، فإن هذه الصورة لا تملك أساساً حقيقياً في التاريخ الفعلي لنضال الحركات الماركسية وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث والتي واجهت الإمبريالية بالسلاح. فإن نظرنا إلى تنظيرات «الثوار» الماركسيين كلينين وتروتسكي مثلاً فسنذهل من مقدار «الاستشراقية» في نظرتهم إلى المجتمع الروسي والدولة الروسية، واللذين يوصفان بالتخلف واعتبار الدولة القيصرية متأثرة سلباً ببقايا الاستبداد الآسيوي، كما تتم مقارنتهما وبقدر كبير من الانتقاص بالمجتمع الغربي، وطبعاً مع التذكير بالعداء التام للإمبريالية لدى كل من لينين وتروتسكي. لا يختلف الحال إن تحولنا إلى مناضلي حركات التحرر الوطني من رواد جيل الاستقلال والملتزمين بالقيم «الغربية» الحديثة. هؤلاء هم المناضلون «الفعليون» الذين حملوا السلاح وواجهوا الإمبريالية في سبيل تحقيق استقلال بلادهم أو حتى القضاء التام على الإمبريالية والرأسمالية. ما يميز هذا التراث هو النظرة المركبة للرأسمالية الغربية والمجتمع الغربي الإمبريالي. فمن ناحية هناك نظام «اقتصادي» لاستغلال الشعوب واستعمارها، ومن جهة أخرى يمثل هذا النظام، وبتحديد أكثر منظومته القيمية، مرحلة تقدمية في التاريخ ومتقدمة على الأنظمة الاجتماعية والقيمية المحلية. فالتنوير «الغربي» ليس صنواً للإمبريالية، كما أن العداء للإمبريالية ليس بالضرورة هو الأفضل إن كان مجرد راية لقوى رجعية. من جهة، تثمن الماركسية الدور التحديثي للإمبريالية في المجتمعات ما قبل الرأسمالية، ومن جهة أخرى تنظر إليها بوصفها نظاماً للاستغلال والاستعمار وما يرافقها طبعاً من أحداث مفجعة ودموية. فيمكن لنا أن ننظر إلى الارتفاع بمستوى حياة البشر في كل مكان على هذه الأرض، ارتفاع معدل الأعمار وانخفاض معدل الوفيات والقدرة على إعالة هذا العدد الهائل من البشر مع التحسن في مستويات التغذية لجهة التحسن المادي، ويمكن أن نضيف إليه التحسن الخلقي المتمثل في ازدياد قدرة البشر على تقرير أمورهم وتحررهم من الجهل والخرافة، كما يمكن لنا أيضاً أن ننظر إلى الحروب والمجازر التي قامت بها الإمبريالية. ففي حين يرى كل تيار جانباً من الصورة، اعتاد التقليد الماركسي على النظر إلى الصورة كلها من دون إغفال أي جانب منها، عبر تقديم مقاربة مركّبة للإمبريالية. يعود الفضل في إبراز نظرة ماركس المركبة للرأسمالية ودورها التقدمي في العالم إلى عمل بيل وارن في الستينات والسبعينات، والذي تمتع بنظرة ثاقبة في تقييم العديد من تجارب حكومات الاستقلال الوطني، فاستبق بعقود ما صرنا نراه اليوم من انحطاط حكومات البلدان المستقلة التي قامت لاحقاً بتبني سياسات سلطوية شعبوية قائمة على خليط من سياسات القطع والخصوصية القومية. لكن، لماذا انزوت هذه الصورة المركبة لمصلحة مقاربات أحادية البعد؟ نجحت الماركسية في تقديم مقاربة مركبة بحكم امتلاكها فلسفة تاريخ، أيديولوجيا التقدم. من منظور المستقبل، المجتمع الشيوعي وحركة التاريخ، يمكن للماركسية أن ترى الدور اللاإنساني للإمبريالية والرأسمالية، وفي الوقت ذاته أن ترى أيضاً الدور التقدمي للرأسمالية والإمبريالية. اليوم انتهت فلسفات التاريخ، وبالتالي فُكت لحظتا الماركسية، النقد والإيمان بالتقدم. فآل النقد إلى نقد كلي للإمبريالية بوصفها تجلياً للشر، وانتهت التقدمية، والتي جُردت من أي طوبى، إلى قبول تام بالمجتمع الرأسمالي بوصفه التعيين الوحيد للتقدم. وهكذا أصبح لدينا تياران متنافران، الأول يستعيد تقليد النقد من دون أن يموضعه في إطار تقدمي للتاريخ، فيجد نفسه حبيساً في الخندق ذاته مع الحركات الأصولية والمعادية للعمومية الإنسانية والأخلاقية. بينما الثاني يركز على لحظة التقدم، ولكنها مجردة من النقد الطوباوي، مما يجعلها شبه عمياء أو متغاضية تجاه دور الرأسمالية فيما نشهده من مآسٍ، بل وتسهم أحياناً في تبريرها باسم القيم الثقافية. هل يمكن اليوم الدفاع عن مقاربة مركبة كتلك التي قدمتها الماركسية من دون فلسفة تاريخ؟ أعتقد أن هذا الإمكانية موجودة، وإن صعبة ومفتقدة لوضوحها ومباشرتها اللذين تمتعت بهما بفضل فلسفة التاريخ، ولكنها تبقى وسيلتنا الوحيدة لفهم تعقيد واقعنا أولاً، ولنتحرر من حروب عبثية تُفرض علينا من جانب الآخرين ثانياً. * كاتب سوري
مشاركة :