أسباب اضطراب العقل السياسي العربي وتوحُّده

  • 8/18/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لا يزال العالم العربي يغرق في وحل مشكلاته التي لا تنتهي وفي أزماته التي تتمادى عاماً بعد عام، ولا يزال التساؤل عن سُبل الخروج من ذلك النفق المظلم الذي يعيش فيه العرب يتجدد، خصوصاً مع تدهور الأحوال والعجز العربي عن صياغة مشروع فكري قادر على أن ينهض بالبلاد العربية من كبوتها العقلية والاجتماعية والسياسية أيضاً. من المهم التركيز على قيمة العقل في الفكر السياسي العربي باعتباره السّبيل الوحيد لعودة العرب من جديد إلى الحضارة الكونيّة، ولن ينجو العقل السياسي العربي من اضطرابه وتوحده إلا بإلغاء المسببات التي أودت به إلى هذه الحالة. ونُجمل هنا بعض أسباب اضطراب العقل العربي وتوحُّده: • دور الاستعمار في تصعيد الاختلافات العرقية والدينية إن تأجُّج الاختلافات العرقية والدينية في مجتمعٍ ما يعود إجمالاً إلى فقدان تكافؤ الفرص الاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ ولذلك يصبح التقوقع على الهوية وسيلة فعالة للتعبير عن السخط الاجتماعي- السياسي. وقد لعب الاستعمار دوراً كبيراً في هذا المضمار، حيث وجد المستشرقون من خلال دراستهم الحروب العربية الجاهلية، كحرب البسوس وحرب داحس والغبراء، أن إمكانية تأجيج الاختلافات العربية مهمّة ليست بالصعبة؛ بل أصبحت أسهل بعد الإسلام، وتحديداً بعد ظهور عدة طوائف إسلامية. وهذا ما حدث لاحقاً ويحدث اليوم؛ حيث إن الاستعمار صعّد من الاختلافات العرقية والدينية، لدرجة أدت إلى أن يقوم العرب أنفسهم بتقسيم هوياتهم والتقوقع على هويات مختلفة؛ مما فتَّت النظام السياسي العربي بشكل تدريجي. • خروج الأمة العربية عن النصيصف الغربيون حضارة الإسلام بأنها حضارة "نصية"، والأمةَ الإسلامية بأنها أمة "نصية"، والحق أن هذا الوصف في مجمله صحيح. ولكن هذه "النصية" حتى لو كانت مؤذية في بعض الأحيان، فإن الحضارة الإسلامية العربية كانت حضارة كونية في وقتها، لا يمكن لأحد إنكارها. ليست الأزمة أن الأمة العربية اليوم هي أمة "نصية"؛ بل العكس تماماً، حيث إن الأمة العربية خرجت عن النص أكثر من تمَدرُسِها عليه، وهذا الخروج لم يتم بدافع الاجتهاد ومواكبة روح العصر، وإنما كان بدافع تغليب مصالح فئوية ضيقة. • العودة نحو الماضي دون تغيير في شروط ممارسة الفكر السياسي قدم جورج طرابيشي في كتابه "المثقفون العرب والتراث" تحليلاً نفسياً لخطاب المثقفين العرب انطلاقاً من رد فعل الطبقة المثقفة بعد الهزيمة الحزيرانية (يونيو) عام 1967م، مطلقاً عليها اسم "الرضّة النفسية" التي دفعت الكثيرين منهم للعودة نحو الماضي؛ بحثاً عن حلول المستقبل؛ الأمر الذي أدى إلى التراجع الحضاري. إن المشكلة ليست في العودة نحو الماضي، فكثير من المشاكل التي نعانيها اليوم سبق للعرب أن عرفوها ووجدوا لها الحلول المناسبة، ولكن المشكلة تكمن في شكل هذه العودة وعدم التغيير في شروط ممارسة الفكر السياسي. تناول جورج قرم في كتاباته المشكلة التي تكمن في شكل هذه العودة، حيث يرى أن هناك ثغرة خطيرة في الذاكرة العربية تتمثل في نسيان تعددية مصادر الثقافة العربية. وبحسب قرم، فإن هذه الثغرة وُجدت بفعل تواطؤ وسائل الإعلام العربية والغربية، وعدد كبير من المثقفين العرب والغربيين. حيث إن العديد من المؤلفات العربية التي تعيدنا إلى الماضي، مثل الكتابات حول الفتنة الكبرى وحول الخلافات الدينية والعقيدية، تُصور العقل العربي وتكوينه وكأنه عقل جامد يعتمد بشكل شبه حصري على رؤية دينية إلى العالم. وتتناسى هذه المؤلفات مدى غنى وتنوع الفكر العربي، سواء خلال فترة القرون الأولى من تألق الحضارة العربية الإسلامية أو في عصرنا الحديث بنسيان حركة النهضة العربية البرّاقة التي بدأت مع كتابات الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي وتواصلت مع العديد من المفكرين العرب من كل الاتجاهات الفكرية. • إشكالية مفهوم الأمن القومي في القاموس العربيما زال مفهوم الأمن القومي العربي ملتبساً لدى الأنظمة السياسية العربية، حيث لا يوجد تعريف واحد له، وكل نظام عربي يرسم ملامح الأمن القومي الخاص به حسب مفهومه ومصالحه وتحالفاته ورؤيته لخريطة الصراع في المنطقة. من جانب آخر، ما زالت علاقة الأمن القومي العربي بالأمن القُطري لكل دولة علاقة ضبابية غير واضحة لدى الأنظمة العربية كافة، فأين يبدأ الأمن القومي العربي بالنسبة للأنظمة؟ وأين ينتهي؟ ومتى يبدأ الأمن القُطري؟ ومتى ينتهي؟ وكيف ومتى وأين يتم الانحياز إلى أحدهم على حساب الآخر؟ ولماذا؟ سببت كل هذه الإشكاليات إرباكاً للعقل السياسي العربي، جعلته يظل بعيداً عن صياغة أية مقاربة واضحة محددة للأمن القومي العربي، في وقت بات فيه لكل الدول بالعالم مفاهيم واضحة المعالم لأمنها القومي. نتج أيضاً عن إشكالية مفهوم الأمن القومي في القاموس العربي، إعطاء مساحة وقوة للطابور الخامس لممارسة دوره بِحُرية تامة بتضليل الشعوب وحرف بوصلتها لخدمة أجندات مشبوهة. • المشاركة السياسية للمرأة العربيةفي آخر دراسة أجرتها منظمة المرأة العربية لرصد نسبة مشاركة المرأة في صنع القرار العربي والتمثيل البرلماني، تبين أن مستوى تمثيل المرأة في البرلمانيات العربية لا يزال أقل بكثير من المستوى الذي تسجله مشاركة المرأة في باقي برلمانيات دول العالم، حيث وصلت النسبة الأخيرة إلى 12% مقابل نسبة 20% على الصعيد العالمي. وأوضحت رجاء خليفة، القائمة على هذه الدراسة، أن "العقلية السائدة في منظمات صنع القرار تنظر سلباً إلى المرأة في موقع السلطة، وأن القوى والأحزاب السياسية لا تقوم بدعم وصول المرأة لمراكز القرار". نستنتج مما سبق أن الرجل العربي ما زال يستنقص المرأة لو كانت أم العقلاء أو حتى أمه؛ لمجرد أنها أنثى لا يجوز أن يكون لها رأي مستقل.. إن هذا يمثل أبسط أسباب اضطراب العقل العربي وتوحُّده. • غياب ثقافة الاعتراف بالهزيمة واختراع الانتصارات والإنجازات الوهميةيمكن التوصل إلى هذه النتيجة من قراءة سريعة للعقل السياسي العربي منذ هزيمة يونيو/حزيران عام 1967، حيث لم يملك نظام سياسي عربي الشجاعة للاعتراف بهذه الهزيمة حتى اللحظة. الاعتراف بالهزيمة شجاعة، ولكن عدم الاعتراف بها انهزام، فالهزيمة قد تصيب أي دولة مهما كانت قوتها، ولكن عدم الاعتراف بالهزيمة يؤدي إلى الانهزام الذي يعبر عن حالة داخلية من الفشل وعدم القدرة على اتخاذ القرارات السليمة ووضع خطط وتصورات مستقبلية ذات أهداف إيجابية بنَّاءة. إذاً، يمكن توصيف العقل السياسي العربي بالانهزامي لا المهزوم فقط. وللأسف، فإن فئات واسعة من الجماهير العربية عززت وكرست انهزامية العقل السياسي العربي. ويمكن قراءة هذا بوضوح من خلال المهرجانات والتجمعات الحزبية والفصائلية التي تقوم بتزيين الهزيمة والفشل؛ مما يعطي الأنظمة المبرر لاستمرار اختراع الإنجازات والبطولات والانتصارات الوهمية. • القابلية للاستعمار هو مصطلح أو مفهوم طرحه مالك بن نبي في 1948م بكتاب "شروط النهضة"، ويقصد به رضوخ داخلي عميق للاستعمار، هذا الرضوخ ناتج عن إقناع الاستعمار للأفراد المُستعمَرين بتفوقه عليهم وعدم قدرتهم على إدارة شؤون حياتهم من دونه، ودونيّتهم في كل شيء. على الرغم من استقلال الدول العربية (ما عدا فلسطين)، فإن التاريخ الممتد من بعد التقسيم والحافل بالمهادنات والاتفاقات التي أدخلت مؤسسات الاستعمار الثقافية والاقتصادية والاجتماعية إلى أروقة الأنظمة العربية وبلدانها، يجبرنا على تكرار السؤال نفسه: هل تحررنا فعلاً من الاستعمار؟ إن السؤال -بحد ذاته- يعني أننا ما زلنا نمتلك "القابلية للاستعمار"، وأن العقل السياسي العربي ما زال خاضعاً لشروط الاستعمار. ما هو العلاج الأنسب؟ الإصلاح السياسي ليس زراً يُضغط عليه فتنصلح الأمور، والنهضة ليست بالأمر الهين؛ لأنه لا بد من إعادة بناء الإنسان العربي أولاً وإعادة كرامته. وحينها فقط، يمكن التخلص من "الدونية" التي تُسيطر على العقل العربي والتي تجعله يمتلك عامل "القابلية للاستعمار". المراجع: • قرم، جورج. نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط: تحليل ظاهرة توظيف الدين في السياسة الدولية. بيروت: دار الفارابي، 2015. • طرابيشي، جورج. المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي. بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1991. • قرم، جورج. " ثغرة خطيرة في الذاكرة العربية.. نسيان تعددية وغنى مصادر الثقافة". العربي ، ع.697 (2016): 26-31. • الشريف، غادة. "المرأة العربية ترصد نسبة مشاركة المرأة في صنع القرار العربي والتمثيل البرلماني". جريدة "المصري اليوم"، 28 ديسمبر/كانون أول.2016. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :