سمى د. محمد عابد الجابري (1935 – 2010) الحضارة العربية الإسلامية «حضارة الفقه» تبعًا لمنتوجها الأهم، فالعقل العربي دائما ما ينطلق في التفكير بحثًا عن مشروعية دينية، ومؤلفات الفقه السياسي خير مثال على ذلك، فكتاب الأحكام السلطانية –للفقيه أبو الحسن الماوردي- يضع ما كان في التاريخ على الميزان الشرعي فحسب، ويخلو من أي نظرية سياسية، بينما استطاع هذا العقل العربي إنتاج نظريات رائدة في العلوم التطبيقية، والجدير بالذكر أننا حينما نطالع تراثنا نلحظ أن الفكر السياسي تطور بالخبرة التاريخية والممارسة لا بالتفكير المجرد مثل حضارات مغايرة –اليونان مثالا- وجد الصحابة –رضوان الله عليهم- أنفسهم في إشكالية سياسية عقب وفاة رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم- فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة الاجتماع المشهور، قال فيه الأنصار للمهاجرين «منا أمير ومنكم أمير» فاختلافهم أول الأمر يدل على أن الشريعة الإسلامية لم تلزمهم بنظام سياسي معين، مسترشدين في تلك المعالجة السياسية بقول النبي –صلى الله عليه وسلم- «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ، وقوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) فمن أهم ميزات الشريعة الإسلامية مراعاة تبدل الأحوال من عصر لآخر، والنظرية السياسية التي تصلح لأمة معينة، قد لا تصلح لأخرى، ولهذا تنوعت النظريات السياسية. وفي عصر النهضة العربية عكف المفكرون العرب على معالجة موضوع المرجعية السياسية، فعرب عصر النهضة كانوا يواجهون الحكم العثماني الذي عُني بحماية البلاد من أي عدوان خارجي وجمع الضرائب، وفيما بعد واجهوا الاستعمار الأجنبي، فكان السؤال الأهم هو سؤال الاستقلال وسؤال بناء الدولة والإصلاح السياسي، وعلى أي مرجعية يستندون، التراث الذي يمثل لهم تاريخا منغلقا أم الحداثة الغربية التي تواجههم ثقافيًا وعسكريًا. يقول د. الجابري في كتابه الخطاب العربي المعاصر «إن التحرر من التراث معناه امتلاكه، ومن ثم تحقيقه وتجاوزه، وهذا ما لا يتأتى لنا إلا إذا قمنا بإعادة ترتيب العلاقة بين أجزاءه من جهة، وبينه وبيننا من جهة أخرى، بالشكل الذي يرد إليه في وعينا تاريخيته ويبرز نسبية مفاهيمه ومقولاته ... والتحرر من الحداثة معناه التعامل معها نقديًا، أي الدخول مع ثقافتها –التي تزداد عالمية- في حوار نقدي، وذلك بقراءتها وفهم مقولاتها ومفاهيمها في نسبيتها» وعليه إذا شرع الفكر العربي في ما يدعو إليه د. الجابري فإنه سينتج نظرية سياسية عربية خاصة بواقعه الراهن!
مشاركة :