يؤكد الشاعر والروائي أحمد فضل شبلول أن دور النشر، لا الكتّاب فحسب، تسهم في رواج الرواية، لأن غالبيتها تمتنع عن نشر الشعر وتحتفي بنشر الرواية، مضيفاً أن الشعر يخضع لإلهام اللحظة وتدفقها، ورب قصيدة تكتب من دفقة واحدة، وتكون مكتملة، لا تستغرق سوى سويعات وربما دقائق معينة. أما الرواية فهي مشروع كتابي عملاق أو متكامل، يعود فيه الروائي إلى مراجع ومصادر وتواريخ وحوادث وأجندات. قيل «ما نكتبه هو ابن ما نقرؤه»، وقيل «إن الكتابة هي في الحقيقة إعادة كتابة أو إعادة تشكيل مفردات اللغة، وإن ما نكتبه قد كتبه أشخاص آخرون قبلنا». حدثنا عن الكتابة الأولى؟ نعم... وهذا ما قامت عليه نظرية التناص التي تحدثت عنها جوليا كريستيفا (الفرنسية من أصل بلغاري)، وأعتقد أن هذا الكلام صحيح مئة في المئة، لأننا في النهاية نتاج ما نقرؤه وما ننفعل به أيضاً، وما نتأمله في الكون والحياة. بطبيعة الحال، قرأت كثيراً قبل أن أمسك بالقلم وأكتب، وكانت كتاباتي الأولى أصداء لما قرأته لدى بيرم التونسي، وأحمد رامي، وإبراهيم ناجي، وصالح جودت، ونزار قباني، وما كنت أسمعه من أغانٍ لعبد الحليم حافظ، وأم كلثوم، وفريد الأطرش، وحكايات «ألف ليلة وليلة» في الإذاعة، إلى أن بدأت أكتب ما أشعر به شخصياً، وحاولت أن أتخلّص من قبضة الآخرين على نصوصي التي تلت البدايات الخجولة المقلدة، فجاء ديواني الأول «مسافر إلى الله» عام 1980 وفيه صوت خاص ومفردات خاصة إلى حد كبير. بعد 12 ديواناً شعرياً وكتب للأطفال ودراسات نقدية، جاءت روايتك الأولى «رئيس التحرير.. أهواء السيرة الذاتية». لماذا؟ اختارت الرواية شكلها، ولم أختره أنا، ولم يكن يصلح سوى هذا الشكل لها، فالأحداث والشخصيات والأزمنة والأماكن كلها لا تصلح لأن يخرج هذا العمل في شكل قصيدة أو حتى مسرحية شعرية. هل انتقلت من الشعر إلى الرواية لأننا نعيش زمن الرواية؟ نحن نكاد نعيش زمن الرواية فعلاً، ولكن لم يكن هذا هو السبب لكتابة «رئيس التحرير». كما ذكرت سابقاً، فرضت الرواية نفسها عليّ، ولم أفرض نفسي عليها، فكانت هي الشكل الذي حمل الأمور كافة التي أود قولها، وعلى رأي محمود درويش «الرواية قادرة على أن تستوعب أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية كافة». الرواية الشاعرية في روايتك شاعرية نابضة وطافحة، ألم تكن تخشى أن يغلب الشاعر على الروائي، فتغدو الرواية قصيدة طويلة؟ كنت واعياً لهذا الأمر، ولكن كون السارد شاعراً في الرواية، خفّف كثيراً من العبء، فأجريت على لسانه سطوراً شعرية تناسب الموقف الذي يعيشه. كتبت بعض هذه السطور من وحي اللحظة التي يعيشها السارد، وكان بعضها قديماً ولكن وجدت أنه يصلح لهذا الموقف، مثل تغزل السارد في أصابع قدم الجوهرة إبراهيم، فقد كانت السطور جزءاً من قصيدة بعنوان «سندريلا»، كذلك عندما ذكرت له منى فارس أنه كتب في عينيها أجمل قصائده في العيون، كان لا بد من استدعاء سطور من قصيدة لي بعنوان «آبى إلا أن أرتاح بعينيك»، والتي أقول في مطلعها»: عيناك سماواتٌ سبع/ وأنا كيف أصل لهما/ عيناك تضمانِ البحر/ وأنا موجة عشق تسبح/ لكن تجهل أين الشط؟ بل أجريت شعراً على لسان الجوهرة وهي تنتظر يوسف عبد العزيز في جناحها في فندق فلسطين بالإسكندرية، لأن الموقف يستدعي ذلك. طريق مسدود نهاية روايتك «رئيس التحرير» مفتوحة. هل تفكر في كتابة جزء ثان لها؟ النهاية مفتوحة فعلاً. قال السارد: «هل أعود إلى الخليج بعدما كادت تصل علاقتي برئيس التحرير إلى طريق مسدود؟ هل ما زالت زجاجتي هناك على مكتبي تشع بحاراً وأحلاماً وأمواجاً ورذاذاً ووشوشات لا تنتهي؟ أرسلت رسالة إلكترونية إلى صديقي منسق المجلة: إذا لم أعد إليكم خلال أسبوعين، أعطِ الزجاجة التي على مكتبي لـ سوريش الهندي!». وأعتقد أنني سأتاهب لجزء ثان بعد أن أتأمل ما نتج عن الجزء الأول، خصوصاً إذا عاد السارد إلى عمله في الخليج. تبدو مشدوداً إلى الماضي والتاريخ عموماً، ألم تخشَ أن يثقل ذلك الرواية؟ إنه التاريخ المعاصر الذي لا يزال ينبض بيننا، ومعظم أبناء جيلي، والأجيال التالية، عاصروه وعاينوه، بدءاً من انتفاضة 18 و19 يناير 1977 حتى ثورة 25 يناير 2011، لذا لم يثقل هذا التاريخ الرواية، ولكن على ما أرى منحها حيوية ودفقاً في الأحداث، وكان معظم القراء شهود عيان على تلك المرحلة التاريخية التي أتحدّث عنها، وعبَّر لي أحد الأصدقاء عن شعوره بأنه جزء من الحدث الروائي، رغم أنني لم أتحدث عنه إطلاقاً، ولكنه شعر بأنه جزء من حركة هذا التاريخ القريب الذي عاينه بنفسه. كذلك تنوّع الأماكن في هذا التاريخ القريب، ما بين الإسكندرية والقاهرة وعمّان وأبو ظبي وبغداد وغيرها، أضفى حركية كبرى على السرد وعلى الوصف. إسقاطات كل عمل أدبي لا يخلو من هدف، إلى ماذا كنت تهدف؟ وهل يمكن النظر إلى الرواية بصفتها تحمل إسقاطاً على الحاضر؟ رغم تاريخية الرواية، أو تناولها زمناً قريباً مضى، فإنني أعتقد أنها تتحدّث عن الحاضر أيضاً، وفيها دلالات رمزية وإيحائية كثيرة، ولا أعتقد أن فيها مجالاً للإسقاط، فمعظم الرموز في الرواية ما زال يعيش بيننا، لذا لا أعتقد أن «رئيس التحرير» رواية تاريخية. ولكن كما جاء على الغلاف الخلفي في الطبعة الأولى (الأردنية): «تكشف فصول الرواية كثيراً مما يدور في كواليس الصحافة المصرية والعربية، وكيفية إدارة المجلات والجرائد، وتشابك المصالح بين إدارة التحرير والكتّاب وبقية العاملين بالمطبوعة، وكيفية تربُّح بعض الأفراد من وراء عملهم في الصحافة، كذلك تكشف الصراع الخفي في إحدى المجلات الثقافية الخليجية، بين رئيس التحرير وبين إحدى المحررات التي كانت وراء تعيينه رئيساً للتحرير». وهذا هو الهدف من كتابة الرواية، كشف تلك الكواليس وما يدور في المطبخ الصحافي ولا يعلمه معظم القراء، وهم يتوقون إلى ذلك لأنهم يتعاملون يومياً معه من خلال متابعة ما ينشر في الصحف والمجلات، وأعتقد أن مجال الرواية العربية لم يتوقف كثيراً عند هذا العالم، سوى بعض الأعمال مثل «زينب والعرش» لفتحي غانم، وأجزاء من «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، و«حكايات المؤسسة» لجمال الغيطاني، وأعمال أخرى ضعيفة لموسى صبري وغيره. زمن الرواية يرى أحمد فضل شبلول أننا ما زلنا نعيش زمن الرواية ويقول: «للأسف الشعر يتوارى الآن لمصلحة الرواية، وأعتقد أن سوقها الرائج مؤشر على ذلك، كذلك دور النشر تسهم في هذا الرواج لها وليس الكتّاب فحسب، لأن غالبيتها تمتنع عن نشر الشعر وتحتفي بالرواية، والقراء يريدون أن يعرفوا عن طريق الحكاية والسرد والحوار وليس عن طريق الشعر الذي تحوّل معظمه إلى جمالية مغلقة على نفسها، سواء من ناحية الموسيقى أو الإيقاع أو الصورة المبهمة على الرجل العادي أو اللفظة المتعالية أحياناً، إلا بعض الاستثناءات. أسهم شاعر مثل أدونيس وحوارييه في الرواج للرواية من دون أن يقصدوا ذلك، عن طريق تعاليهم على الواقع ودخولهم في معترك فكري ربما لا يهم القارئ العادي الذي انصرف إلى الروايات لأنه وجد فيها نفسه».
مشاركة :