بعدما أغرقت وسادتها بالدموع وأزكمت أنفها واستهلكت من المناديل قدرا لا بأس به؛ قلبت الوسادة وراحت في نوم المجهد السائر على قدميه منذ شهور. في الصباح اغتسلت وذهبت إلى عملها بعينين متورمتين -كالعادة- ولا يشعر بها أحد، وتتحمل أيامها هكذا حتى تلتقي بخطيبها في نهاية الأسبوع لتأخذ منه شحنة تبقيها على أمل اللقاء التالي. تصبر نفسها وتأمل في غدها -لعله يكون أحن من أمسها- بالزواج والانتقال من بيت الإهانة: بيت أسرتها إلى بيت تكونه هي على أسس من الحب والتآلف، ولكن طال عذابها، وطالت إهانتها من كل زاوية: احتقار من أبيها، إهانة من أخويها، قسوة من الأم، أذى في الشارع وأخيرا مداهنة ونفاق في العمل مع التغاضي عن تجاوزات رئيسها المباشر. طفح كيلها وكادت أن تجن، وانتابتها حالة عصبية من الاقتراب، فكلما اقترب أحد إلى مساحتها الشخصية ارتعشت كالمحمومة، حتى خطيبها تفهم هو ذلك، نظرا لزحمة الشوارع والمواصلات فقال لها: تخيلي أننا تزوجنا وكل يوم تعودين من العمل تمكثين في منزلك بمفردك متحررة من كل شيء.. وراقت لها الفكرة، واستعذبت التخيل، وأصبحت تهرب لخيالها من واقع بغيض، حتى جاء اليوم الذي هربت فيه ولم تعد. استيقظت ذات صباح في هلع من المكان الذي وجدت نفسها فيه، فاستجمعت قواها وهربت للشارع تسأل عن موقعها لتحدد وجهتها والناس تسخر منها ولا تجيبها وابتعدت مهرولة حتى وصلت لعمل خطيبها فارتمت عليه متسائلة كيف تركهم يختطفونها؟ فحينما أدرك حجم المعاناة النفسية لخطيبته انطلق بها إلى بيته، وكلما ذكر لها أباها وأمها قالت: أنت أهلي، كلما ذكرها بأسرتها قالت: أنت كل ما أملك، فعقد عليها وتزوجها بمعرفة أبيها بعدما أخبره الطبيب النفسي أن ابنته عقلها يرفض حياتها معهم، وأنها لا تعرف في الحياة غير حبيبها، ذلك القلب المحب، حب اختياري لم تفرضه العادة بل نابع من عقله وقلبه، كما أخبرهم أن العقل البشري قادر على إعادة ترتيب أولوياته ويعمل بتركيز على الأهم فالذي يليه، لذلك رفض عقل ابنتهم إهانتها أكثر من ذلك وذهبت للخيال الذي كانت تستكين إليه حتى إنها لم تعد تصاب بتورم العينين؛ لأنها لم تعد تبكي ليلا بل تتخيل حياتها بعد الزواج فتهدأ وتنام. جل ما كان يدهش الأسرة الجاهلة أنها فعلت كل ذلك في غمضة عين وكأن عمرا لم يمر عليها في ذل واحتقار منهم.
مشاركة :