الروائي والقاص المصري أحمد أبوخنيجر، الذي التقته “العرب” في حديث عن تأملاته المتأنية عن المدينة والإنسانية في مجموعته القصصية الأخيرة.العرب حنان عقيل [نُشر في 2017/08/21، العدد: 10729، ص(15)]اللغة البسيطة تساعد على التأمل في مجموعته القصصية الأخيرة “مشاهد عابرة لرجل وحيد” يلتقط الروائي والكاتب المصري أحمد أبوخنيجر تفاصيل دقيقة عابرة كي يسجلها ويتأنى في مدلولاتها. يخلق من الأحداث والمواقف اليومية مواقف إنسانية وتأملات ثرية. جاء في تقديم تلك المجموعة: “مجموعة قصصية خلقت من ضربات فرشاة سريعة لا تكاد تكشف عن تفاصيل، وإن كان بعضها يكمل بعضًا، ليخلق عالم هذا الرجل الوحيد الجالس في مقهى في شارع السوق في مدينة ما: يراقب الآخرين أو يتأمل ذاته أو يستعيد الذكريات الهاربة. ويظل عالم راوي القصص كأنه عالم صغير، لكن شعرية القص تمنح المتلقي فضاءات متخيلة شديدة الغنى والخصوبة، يزيد من ثرائها جمال اللغة والأسلوب المرهف والرسم الدقيق المتأني للمشاهد العابرة”. الأفق الذاتي تنقسم المجموعة إلى جزئين؛ الجزء الأول “مشاهد عابرة”، والثاني “رجل وحيد”. يوضح أبوخنيجر أن كتابة تلك القصص جاءت عبر ما يقرب من ثلاث سنوات، بعضها كان حقيقيًا وكتبه أثناء حدوثه، وهي بمثابة مشاهد قصيرة في ظل الانشغال بكتابات أخرى، لافتًا إلى أن القصص في الجزء الأول من المجموعة تخص الشخص دون أن يتورط فيها، قد يتورط بمشاعره لكنه ليس طرفًا إلا في حالات نادرة، أما الجزء الثاني من المجموعة ففيه يشاهد ذلك الرجل حياته الشخصية ويتأمل وحدته وعزلته وتصوراته الشخصية. يشير أبوخنيجر إلى أن تلك المجموعة جاءت بينما كان يحاول إعادة علاقة تعرفه بالمدينة، مدينته أسوان على الأخص، خاصة أنه حاول الكتابة عنها ولم يستطع لشدة تعلقه بها. وهو ما جعله يتجه لملاحظة الأشياء العابرة التي قد تكون أكثر تأثيرًا من أشياء أخرى مركزية. يقول “المدينة تقدم سوء الظن قبل حسن الظن، هي بنت المخاوف والظنون السيئة التي تصنع الفواصل بين البشر، هنا أحاول أن أرى المدينة بتجلياتها المختلفة؛ في أشخاص منهزمين، وآخرين أكثر قدرة على التعامل معها. أحيانا بعض المشاهد تكون قاسية لكنها جديرة بالتأمل”. لا ينفي أبوخنيجر وجوده الذاتي في أعماله وفي تلك المجموعة الأخيرة تحديدًا، يقول “أنا هذا الشخص الوحيد المتأمل الموجود في تلك المجموعة القصصية، ومع هذا لا يمكن الجزم بأن الحضور الذاتي في العمل الأدبي يكون بشكل كامل على الدوام، دومًا هناك لحظات وتفاصيل بعينها تكون جزءًا من الذات. أظن أن في ثلاثية نجيب محفوظ على سبيل المثال يمكن أن نلمح وجوده الشخصي في تفاصيل عدد من شخصياته، لكن لا يمكن الجزم بأن شخصية ما هي الكاتب بكل تفاصيلها”. ينوه أبوخنيجر بأن الوحدة منحته مساحة من التأمل لإعادة قراءة الكثير من الأشياء بشكل أكثر هدوءًا وتوازنًا، حتى على مستوى اللغة التي بات حريصًا على تصفيتها إلى أبعد حد بعيدًا عن الزخارف غير الضرورية، موضحًا “الكاتب في بداياته يحاول إثبات ذاته من خلال تفخيم اللغة، لكن عندما تزداد وتتعمق خبرته يعرف أنه كلما كانت اللغة أكثر بساطة منحته قدرة أكبر على التأمل”. فيما يسعى الكثير من الكتاب إلى “التثاقف” في ما يكتبونه من أعمال أدبية بغية لفت الانتباه لما يكتبونه أو الاستعراض المعرفي والثقافي كجزء من محاولتهم التأسيس لعمل ناجح، ينأى أبوخنيجر عن تلك المنطقة بالسلاسة التي تميز كتاباته إلا أنها في الوقت ذاته تنجح في ملامسة الوجدان بنجاح. يُبيّن الكاتب أن الثقافة داخل العمل الأدبي عندما لا تكون لها أهمية داخل النص ولا تخدم تطور الأحداث فهي إدعائية ولا حاجة إليها، أما إن كانت جزءًا من تطور الأحداث داخل القصة أو الرواية فلا بأس بوجودها.الذات دائما تحضر في العمل الأدبي يقول “في القصة القصيرة لا مجال للتفاصيل الزائدة لأنها ستكون عبئًا على القصة وسببًا في تشويش القارئ. بالنسبة إلي أخاف دوماً من الكتابة وتكون منهكة لي، فمواجهة الورق للكتابة من أصعب الأشياء، في كل مرة تواجه فيها الورق تكون لديك المخاوف ذاتها: ماذا ستكتب ولماذا؟ في الكتابة لا أتنازل عن المتعة، أنا ككاتب لا بد أن أستمتع بما أكتبه، أيضا الكتابة إن لم تفاجئ كاتبها لا يجب أن يكمل ما يكتبه. أنطلق دومًا من تصورات غائمة، مشهد أو جملة، ثم أبدأ في التعرف عليها بالكتابة”. شخصيات العمل يمتلك الكاتب علاقة خاصة مع شخصيات أعماله عبّر عنها في إحدى القصص بمجموعته الأخيرة، فطوال رحلة كتابته لأي عمل يجالس شخوصه ويحادثهم ويرافقهم حتى لا يكاد ينتبه للمحيطين به أثناء الكتابة. يقول أبوخنيجر “أتعايش مع شخصيات أعمالي وأرافقهم فترة الكتابة، أتحدث معهم وأجالسهم وأتناقش معهم. في رواية ‘العاشق الصحراوي’ وبعدما عكفت على كتابتها ما يقرب من أربع سنوات ظللت عاجزًا عن أن أضع نهايتها فتركتها، وبدأت في كتابة رواية أخرى أوشكت على الانتهاء منها تحت عنوان ‘شق الريح’ وآمل أن أنتهي منها قريبًا”. للكاتب دراسات عن الأدب الشعبي كما أن الموروث الشعبي حاضر في بعض أعماله بأشكال متباينة، يلفت أبوخنيجر إلى أن دراسة الأدب الشعبي منحته تلك المساحة لفهم من يكتب عنهم وعن حياتهم قائلًا “تنطلق تصورات الناس عن أنفسهم والكون من حولهم من الأدب الشعبي ومما أنتجوه من فنون، لذا اهتممت بجمع الكثير مما أنتجته الجماعة الشعبية، وهو ما يجعل الكاتب يعبر بشكل حقيقي عن الناس وأحلامهم وحيواتهم”. يستطرد “في إحدى قصص مجموعتي الأولى، بعنوان ‘لمسة’، كنت أتحدث عن فتاة أدركتها سن العنوسة وأطلقت عليها ‘بنت ناس” قاصدًا عدم التخصيص وكونها فتاة في المطلق، اكتشفت في ما بعد أن ذلك اللفظ كان يطلق على الفتيات والنساء العاملات في بيوت الدعارة حينما كانت مرخصة في مصر، هنا المعنى المقصود اختلف تمامًا، لذا كان لا بد أن أعود لقراءة ذلك الموروث كي لا أستخدم ألفاظًا دون معرفة مدلولاتها، استمتعت بدراسة الأدب الشعبي وساعدني بشكل هائل في الكتابة، وأستعد حاليًا لنشر كتاب ‘الإنشاد الديني في جنوب مصر’ “. يرى أبوخنيجر أن الشكل أو النمط الذي يكتب من خلاله القاص ليس مهمًا، فالمهم هو أن يقدم عملًا متميزًا وقادرًا على إثارة الدهشة والمتعة، وينجح في أن يلبي حاجات في الوجدان والروح، فالكتابة هي المسؤولة عن التشكيل وليس الكاتب برأيه. يؤمن أبوخنيجر بأن لكل كاتب همومًا في الكتابة، فهو مهموم أحيانًا بالتقاط التفاصيل البسيطة شديدة الإنسانية التي تمر دون أن يلحظها أحد كما في مجموعته الأخيرة، أو بمناقشة بعض المظلومية التي يعاني منها أهل الصعيد. لكن ما يهم حسب رأيه أن تحافظ الكتابة الإبداعية على شكلها الجمالي وألا تتحول إلى مقال أو منشور سياسي أو اجتماعي. ونذكر ختاما أن أبوخنيجر نال جائزة الدولة التشجيعية عن روايته “نجع السلعوة”عام 2003، وجائزة ساويرس عام 2006 عن روايته “العمة أخت الرجال” لكنه ينوه بضرورة ألا يكتب المبدع بغية الحصول على جائزة ما، فلا بد أن تصب كل الأفكار أثناء الكتابة وفق إملاءات الكتابة وليس الجائزة أو غيرها، مضيفا “الجوائز مهمة في دعم الكاتب نفسيًا ومنحه إشارة لأن يكمل المسير، وهذا لا يعني الانشغال بها أثناء الكتابة أو العمل من أجل الحصول عليها، فأنا أظن أن الإنجاز الأكبر بالنسبة للكاتب هو كتابته”.
مشاركة :