عندما تكون الرواية عنوانا لا غير بقلم: سعد القرش

  • 8/22/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

الكاتب السوداني عبدالحميد البرنس، بابتداعه نسغا فنيا تختفي فيه ملامح الأزمنة، وتذوب المسافات بين الواقعي والغرائبي، الجاد والهزلي، في لغة لا تتخلى عن فتنتها.العرب سعد القرش [نُشر في 2017/08/22، العدد: 10730، ص(15)]انعدام المسافات بين الواقعي والغرائبي تبدأ رواية “السادة الرئيس القرد” للكاتب السوداني عبدالحميد البرنس بولادة الطفل الشيطاني “حمو” وبه تنتهي، وبين البداية والنهاية تهبط من سماء البلاد عبر الراديو خطب رئيس له مئة اسم، ولا يرد لقبه إلا بصيغة الجمع؛ فلا يليق بحاكم متعال حدّ الغياب، وقريب لدرجة تتيح له معرفة أدق أسرار الناس، أن يحمل لقب “السيد” الذي يصلح اسما ولقبا لأيّ أحد، ولكن لقب “السادة” يخص الرئيس، وحده لا شريك له إلا خلفه الذين تقرأ بياناتهم في الراديو، فيتخيلهم الشعب أنصاف آلهة، ولا تعنيه أسماؤهم وصفاتهم. هكذا تمضي بالناس عهود الرئيس الوالد، والرئيس موزع النكات، والرئيس العابر الذي تنتهي حياته بثورة فيصعد الرئيس القرد. ومادامت الأقنعة تتوالى، في صمت شعبي عام، فلا مانع من صعود المسخ المسمى “حمو” اللعين إلى العرش. تقاطع وتواز في الرواية يتوازى خطان ويتقاطعان، مسخ وحيد هنا ومسوخ هناك في القصر تتناسل، فبعد ولادة “حمو” يأتي الإنصات إلى “الرئيس الوالد”، وفي خطبته وعيد، فهو الدولة ومن دونه الهلاك “لو متّ، (يا شعبي)، ستغرق حياتكم، مجتمعة، في ظلام تام. النجم الصغير نفسه لن يكون هناك، فإذا أحدكم يسير، في وضحِ ما يُفترض به أن يكون نهارا، كالمتخبط المترنح، عند استواء الأرض الناشفة المستقرة الصلبة، من خوف وحيرة وعماء. وكثيرة هي، يومذاك، آبارُ الهلاك القاتمة المكتظة”، إلى أن يتخلى عن شرطه الأبدي ويرحل، مصحوبا بخطبة عن صيرورته كمعنى “إنه يرعاكم الآن عبر ماء الأنهار وضوء الشمس وصخور الجبال وخصب الأرض وأنفاس الهواء. لم يعد محدودا”. ويتقادم العمر بالسادة الرئيس موزّع النكات، والرئيس العابر، فالرئيس القرد، وفي عهد الأخير تُبتدع لغة تناسب السفر بين المدن قفزا فوق أشجار تغطي البلاد، ويألف الناس صنوفا من الإذلال، فلا يعترضون على اقتلاع أمخاخهم. في هذا السياق يؤول الأمر إلى “حمو” الذي يتخلى عن لقب “السادة الرئيس”، فهو المفرد الفريد “السيد الرئيس”.الرضيع الشيطاني يتفنن في إفساد لحظات وصال أبويه، بصنوف من الإيذاء، كأن يصيب أباه ألم مفاجئ، فيقفز من فراشه جزعا “حمو” ثمرة شيطانية رزقت بها “علوية التركية”، بعد صيام عشر سنوات عن الحمل، وضعته فصار لعنة على أبيه التاجر “غندور الجمر”، ومسّ الرعب كل من يتعامل معه، وأولهم الجار “حسن الماحي” سائق حافلة النقل الذي لا يستطيع أن يتخيل الحياة في غياب متعة القراءة، وقد رأى عين “حمو” اليسرى تتحول إلى فم ذي أسنان دقيقة قاطعة، يجذب فراشة سرعان ما تختفي في جوفه، فيقول الماحي إن “علوية التركية” ضاجعت شيطانا في فترة حيض. ويكبر “حمو” من غير حاجة إلى خوارق تنسب إليه، ستمشي الخوارق في ركابه، يراها ويعانيها أقرب الناس إليه، ففي شهوره الأولى يشعر أبوه بأنه يبيت مع شيطان يراقبه، وذات مرة أراد أن يتخلص منه بإلقائه في المرحاض، فما كان من حمو المتظاهر بالنوم إلاّ أن فتح عينيه ورمق أباه، في الظلام، فتجمد كتمثال. وتفنن الرضيع الشيطاني في إفساد لحظات وصال أبويه، بصنوف من الإيذاء، كأن يصيب أباه ألمٌ مفاجئ، أو يشعر بانغراس جمرة في مؤخرته، ويشم جلد مؤخرته المحترق، فيقفز من فراشه جزعا، هكذا يكبر “حمو” وهو يصنع أسطورته. ينجذب الصبي إلى جارته “سماح”، ويعرف سطوته على أمها “شامة الجعيلة” وزوجها “حسن الماحي”، المطارد بشبح استجابة سماوية لدعاء أمّه أن يموت في مدينة “نيالا” السودانية، وكلما تقدمت به السن انزاح عن خياله الخوف من تحقق لعنة أمّه، واستبدل بالخوف ثقة يؤكدها ابتعاده عن نيالا التي لم يرها أيّ من أسلافه. ولكن دعوة الأمّ تخيفه، في عهد الرئيس القرد، حين يصبح الفرار إلى نيالا خيارا لا يمكن تجنبه طويلا، بعد تعرضه لتشوّه جسدي ونفسي في سنوات اعتقاله الثلاث، وعجزه عن العثور على رجل الأمن الذي انتزع في السجن مخه، وأخفاه في جدار بقبو سري، ولا يعثر على المخ أو الجلاد، فتكون الهجرة إلى نيالا، عبر الصحارى والوديان وعبور الأنهار، مخاطرة لوعورة الطريق بسبب ثعالب طائرة تطيح رؤوس المسافرين.في رواية "السادة الرئيس القرد" يتوازى خطان ويتقاطعان، مسخ وحيد هنا ومسوخ هناك في القصر تتناسل وتكبر استفتاء شعبي جاء “السادة الرئيس القرد” باستفتاء شعبي عقب ثورة، وتطبّع الناس بعادات القردة، ونشطت المجالس البلدية في زرع أكثر من مليار شجرة؛ لتسهيل القفز والتنقل في الشوارع والسفر بين المدن، في إجراء ينهي أزمة الوقود، إلاّ أنه أوجد أزمة أخرى، إذ عجزت الحكومة عن استيراد كميات كافية من الموز لتغطية الحاجة الشعبية المتزايدة إليه، كسلعة إستراتيجية لم يدرك التاجر “غندور الجمر” أبو حمو أهميتها، لأنه أدمن الشراب ومال إلى العزلة، منذ تجنبه الناس “بوصفه والدا شرعيا ومباشرا لشيطان”. أما حسن الماحي، صاحب الحضور الواعي، فاتبع النظام الغذائي الجديد وعماده الموز، وأتقن لغة القردة، وأنبت لنفسه ذيلا يكسو أعلاه زغب بنيّ لامع، ولم يعد حسن المتمرد يعرف إلاّ باسمه الجديد “حسن ذيل القرد الماحق”. في سنوات حكمه الأخيرة أخلد الرئيس حمو إلى الراحة، واستيقظت في ذاكرته أشواق بعيدة مختلطة بهذيان الخرف، فلم يفرق بين اسميْ “مدينة” و”سماح” التي كبرت في خياله وتحولت إلى امرأة أخرى، رمز لعشق شبابه، وسخّر أدوات الدولة للبحث عنها. ولم تكن “سماح الماحي” في حدود مملكته، فهي في كندا تقضي شيخوخة هادئة، كلاجئة سابقة وباحثة متقاعدة في علم المجتمعات الأسطورية المنقرضة، وقد وصفت في كتاب رحلتهما هي وأمّها إلى نيالا، على الرغم من التحذيرات السائدة من خطورة استهداف الثعالب الطائرة لرؤوس المسافرين. تنتهي الرواية فتبدأ الأسئلة عن المصائر، والمجاز المطابق للحقائق، والكابوس الذي لا فكاك منه بصحو، وقد نسج عبدالحميد البرنس الذي ولد في السودان عام 1967 خيوط “السادة الرئيس القرد” بمهارة وحساسية لاعب سيرك، وكان مقررا ومعلنا أن تصدر الرواية في سلسلة “روايات الهلال” الشهرية، في 15 مايو 2017، ولكن عنوانها حال دون طبعها، وسوف تنشرها قريبا دار ميريت في القاهرة.

مشاركة :