مما لاشك فيه أن التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية الكبرى المتلاحقة والمتواترة قد أدت إلى تكوين نظام جديد من المفاهيم والتصورات والأفكار والقيم التي تختلف، وكثيراً ما يتعارض مع القيم والمفاهيم والتصورات التقليدية القديمة، وتكمن الأزمة التربوية في وجود أنظمة ثقافية متعددة على وجه الخصوص. وتتجسد قيم الثقافة التقليدية أكثر فأكثر كلما توجهنا صعوداً في سلم الأجيال القديمة التي تتمثل بمجتمع الآباء والراشدين، بينما تميل قيم الثقافة المعاصرة إلى الحضور بدرجة أكبر كلما توجهنا تدريجيًا نحو الأجيال الصغيرة على المستوى العمري أي عند الناشئة والأطفال. لم تظهر في المجتمعات التقليدية التي تتميز بوتائر منخفضة جداً للتغير الاجتماعي حدة التناقض بين القديم والجديد كما يشهدها عصرنا أو المجتمعات الحديثة، ففي المجتمعات القديمة والتقليدية يسيطر الراشدون من آباء ومعلمين على زمام العملية التربوية ويشكلون المصادر الوحيدة لكل عملية تربوية أو معرفية، وعلى العكس من ذلك في المجتمعات الحديثة المعاصرة لا يفقد الآباء والراشدون دورهم كمصدر وحيد للمعرفة وكمصدر وحيد لكل عمل تربوي فحسب وإنما قد يفقدون القدرة على التكيف في مواجهة التغيرات العلمية والتكنولوجية المعاصرة. فالراشدون في المجتمعات التقليدية وفي إطار الثقافة المحدودة مطالبون باحتواء ثقافة مجتمعهم وقيمه، وهم بذلك قادرون على الأخذ بزمام المبادرة في كل عمل تربوي وذلك على مدى الحياة. وفي إطار التنوع الثقافي والعلمي غير المحدود في إطار المجتمعات الحديثة يفقد الراشدون القدرة على متابعة دورهم التقليدي حيث يستطيع الطفل نفسه وفي مراحل مبكرة من العمر أن يتقدم على ذويه في مجالات فكرية ونشاطات علمية ومهنية مختلفة، وذلك بفضل القنوات العلمية والمعرفية المتعددة والمتنوعة كالمدرسة والراديو والتلفزيون والصحافة والنشاطات الاجتماعية والثقافية المتاحة. ينعكس التباين الثقافي بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة على بنية المفاهيم والتصورات التي يحملها الأطفال في كل مجتمع، ومن الأمور المهمة التي تشكل إطاراً موضوعياً لما نشهده من تباين بين الأجيال يكمن في وحدة المصادر الثقافية وتنوعها، ففي المجتمع التقليدي الذي ينتمي إليه بعضنا وآباؤنا يتميز بالتجانس الثقافي ووحدة المصادر الثقافية، وهذا بدوره يؤدي إلى وجود أنماط ثابتة ومتجانسة من السلوك والقيم والاتجاهات والعادات والتقاليد بين أفراد الجماعة. وعلى العكس من ذلك نجد درجة عليا من التنوع والغنى والانتقائية في تبني أنماط مختلفة من السلوك والاتجاهات والقيم. ويعود ذلك كله إلى التنوع والغنى في الأنماط الثقافية وفي المثيرات التربوية وإلى تعاقب الموجات الجديدة للتغيرات التكنولوجية التي تحمل معها أنماطاً جديدة من أساليب العمل والتفكير والقيم الثقافية، ويحدث لنا أن نجد عند أطفالنا بعضاً من القيم الثقافية وبعضاً من الاتجاهات التي لم يسبق لنا أن عرفناها والتي تتناقض مع هذه التي تمثلناها وعندها ينشأ الصراع بين الآباء والأبناء وترتفع الحواجز أمام صيغ التفاهم والحوار الموضوعي. د. محمود أحمد البرم
مشاركة :