أكد إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ، الدكتور صالح آل طالب، أنه لا يجوز أن يُحوَّل الحجّ إلى ما ينافي مقاصدَه، لافتًا إلى أن المملكة بِرِجَالَاتِهَا وأجهزتها ومؤسساتِها، تبذُلُ جهودًا هائلة لخدمة الحجيج وتيسير حجهم، وأن النظامُ وُضِعَ لمصلحتهم، والجهودُ كلُّها لأجلهم، داعيًا إلى الالتزام بالتوجيهات، واتباع التعليمات، واستشعار عظمة المكان والزمان والتزام السكينة والوقار والاجتهاد في العبادة والإخلاص لله سبحانه، سائلًا الله أن يتقبل منهم صالح الأعمال. وقال آل طالب في خطبة الجمعة اليوم من الحرم المكي: إنه لا دعوةَ إلّا إلى الله وحدَه، ولا شعارَ إلّا شعارُ التوحيدِ والسنّة، فالدين دين الله والشرع شرعه، والواجب على من بلغه كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع الحق ويطرح ما سواه، ولا يترك القرآن والسنة لقول أحد مهما كان، والله تعالى يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبَهم فتنةٌ أو يصيبَهم عذابٌ أليم}، وما وهنت الأمة إلا بقدر ما تسرب إليها من البدع والمحدثات واتباع الهوى. وأشار إلى أن الانتماء الإسلامي هو الشرف الباذخ والعز الشامخ، وإن أرهقته الليالي وأثقلته الأيام، فالإسلام هو الدين الذي توارث الأنبياء الدعوة إليه، والقرآن هو كلمة الله الأخيرةُ للبشر، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين ورسول رب العالمين، فكيف يكون الانتماء إليه خفيض الصوت أو موضع الإهمال؟! أم كيف تتقدم عليه انتماءات بشرية وأرضية؟! فيا رب هيئ لنا من أمرنا رشدًا، واجمع أمة نبيك محمد على الهدى والسنة وألف بين قلوبهم، وأطفئ عنهم نار الفتن والحروب والخلافات وأنزل عليهم رحمتك يا رب العالمين. وأوضح أن الأمة تمر بموسمٍ عظيم من خير أيام الله تعالى، وركن من أركان الإسلام العظام، يتجاوز الله فيه عن الخطايا ويغفر الذنوب ويقيل فيه العثرات ويقبل الدعوات، إنه الحج إنها أيام عشر ذي الحجة، إنها الأيام المعلومات والأيام المعدودات، مشيدًا إلى أن الحج إلى بيت الله العتيق، شعار الوِحدة والتوحيد، وموسم إعلان العهود والمواثيق وحفظ الحقوق والكرامات وحقن الدماء وعصمة النفوس والأموال فالجلال والجمال والبهاء هو إيحاء منظر الحجيج في حرم الله وفي دروب المشاعر، وفي اتحاد وصفهم وبياض لُبسهم، وفي تلبيتهم الخالدة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وأكد أن هذه الأيام موسمٌ للطاعات والقربات، ومضمار للسابقين إلى الخيرات، أقسم الله بها في كتابه العزيز، فقال جل شأنه: {والفجر وليال عشر}، الاجتهاد فيها أعظم أجرًا، وأيامها أرفع قدرًا، قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء). أخرجه البخاري. وعند الإمام أحمد: (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد). وقال إمام خطيب المسجد الحرام: “إنها أيامٌ تربي المسلم على إحياء السنن وتَنويعِ العبادات، والعودة إلى الله وتزكية النفوس، وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مِن أيامٍ العملُ الصالح فيهن) يعني كلَّ أنواع العمل الصالح، الذي ينهض بالروح ويربي النفس لتبلغ الكمالات، وتَظهَرُ في تجرد المسلم من أهوائه ودوافعه المادية وتُخَلصه من المظاهر الدنيوية. وخاطب فضيلته حجاج بيت الله قائلًا: “اقترب أَوَانُ شُرُوعِكُم في أعمال الحج، فتعلموا أحكامَ مَنَاسِكِكُم، وتحروا صحة أعمالكم قبل إتيانها، تفرغوا لما جئتم لأجله، واشتغلوا بالعبادة والطاعات، فإن ما عند الله لا ينال بالتفريط، أكثروا من الدعاء والتضرع، والهجوا بذكر الله في كل أحوالكم، فنبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما جُعل الطوافُ بالبيت وبين الصفا والمروة ورميُ الجمار لإقامة ذكر الله). رواه أبو داود والترمذي. وأضاف قائلًا: “إذا وقفتم بعرفات فأكثروا من ذكر الله تعالى ودعائه، وتذللوا بين يديه، واسألوه خيري الدنيا والآخرة، وألحوا في الدعاء وأعظموا الرجاء في ذلك الموقف العظيم، فإن الحج عرفة، كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقال أيضًا: (خير الدعاء دعاءُ يومِ عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير). رواه الترمذي. وبيّن فضيلته أنه مَن لم يكن حاجًّا فيُستحَبّ له صيامُ يوم عرفة، محتسِبًا أن يكفّرَ الله عنه السنة الماضيةَ والباقية، كما قال ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما مِن يومٍ أكثرُ من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء). رواه مسلم. وقال الدكتور آل طالب: “حجاج بيت الله الحرام لترتج هذه المشاعر بالتكبير والتلبية، ولتريقوا على ثراها دماء الهدي والأضحية، وتضرعوا لله في ملكوته بأبلغ الثناء وأصدق الأدعية، وسيروا كما سار أسلافكم في هذه الفجاج وتلك الأودية، واستشعروا أنكم في حرم هو لكل المسلمين غايةٌ وأمنية، وباشروا نسككم مباشرة من لا أمل له بالعود وهو موادع، وقوموا بأعمالكم قيام من هو موقن بأنه إلى ربه راجع، فإنما هي تصرم ساعات وفوات لحظات، ثم هو في زمن غيرِ الزمن وأرضٍ ليست كهذي الأرض، وقد فرط الموسم وتقضت الأيام، وعادت به الركاب إلى حيث كان”. وقال: “أي مشهد أبهى من هذا التجمع الإيماني العظيم، فيه اجتماعُ الأمةِ وائتلافُهَا، وظهورُ قِيَمِهَا وأخلاقِها {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، قيم التسامح والإخاء والبعد عن الخلاف والمراء، قيم المساواة والعدل والأخوة والمحبة، إنه نبراس لسبيل نهضة الأمة وقوتها، والذي لا يتأتى إلا بالوحدة والاجتماع، وتجاوز الخلافات والتسامح، إنه حج البيت الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، ليُجمِعوا أمرهم وليوحدوا صفهم، ولن تكون الوحدة إلا بالانتماء للإسلام الصحيح.
مشاركة :