الفترة التي قضاها أندره مالرو وزيراً للثقافة في فرنسا، في عهد الجنرال شارل ديغول، لاسيما في ستينات القرن الماضي، حفلت بالمنجزات الحضارية الى جانب المؤلفات الكبيرة التي وضعها عن الفنون وتاريخها، ما جعل الوزير الكبير بين الحين والآخر، يتجاوز صلاحيات وزارته، كي يتحدث في السياسة والاحزاب السياسية اذ قال منذ أكثر من نصف قرن: لقد انتهى مفهوم اليمين ومفهوم اليسار، وصار التقدم الفكري الإيجابي هو المقياس في تحديد أسس النجاح أو الفشل، على صعيد العمل السياسي، وهذا بالضبط ما استشهد به الرئيس السابق جاك شيراك في بداية ولايته الرئاسية الأولى عام ١٩٩٥ لدى الاحتفال بنقل رفات مالرو الى البانتيون، بتشديده هو أيضاً -أي شيراك- على هذه الحقيقة الفكرية السياسية. إلا أن أحزاب اليمين واليسار، بقيت قوية في ولايتي الرئيس شيراك، الأولى والثانية، ولم يتابع هو او رؤساء حكوماته، الالتزام برأي مالرو، الى ان شاخت الأحزاب، بأفكارها المسبقة وعجزها عن تحقيق الإصلاحات، عندما كانت تتناوب الحكم، يميناً ويساراً، واصبح بعض قادتها، لاسيما في أحزاب اليمين، يبدّلون أسماءها لجذب المواطنين والناخبين إليها، فكان الانهيار الذي أصاب الكيانات الحزبية التقليدية من اليمين إلى اليسار، وأقصى اليسار، قد حتَّمته مقاطعة فئات واسعة من المواطنين الانتخابات، بالإضافة إلى الفساد المالي والإداري الذي أوصل بعض الأسماء الكبيرة الى المحاكم، علاوة على محاولات الطموح إلى تجاوز هذا الواقع الخطير في فرنسا، ما جعل إيمانويل ماكرون الاقتصادي الشاب، يتسلل عبر الثغرات الواضحة، ويعلن وهو وزير للاقتصاد في عهد فرانسوا هولاند الاشتراكي وحكومة إيمانويل فالس، أن الأحزاب الحالية انتهى دورها، وكان ترشيحه لرئاسة الجمهورية من هذا المنطلق سهل النجاح، اذ تجاوبت معه قوى الشباب، واستطاع تأليف حركة سياسية بسرعة، عرف بعض رموز اليمين واليسار، كيف ينتهزون الفرصة لتأييدها والحصول على مقاعد وزارية أساسية في حكومة ماكرون الأولى برئاسة إدوار فيليب. والانتصارات السريعة المتوالية التي حققها مكرون خلال شهور امتدت من فوزه بالرئاسة الأولى، إلى تأمينه غالبية برلمانية واسعة له، في الجمعيه الوطنية، إلى تبديل أسماء كبيرة في السلطة كان آخرها الجنرال دو فيليه، قائد القوات العسكرية المشتركة حتى انتقاله السريع الى السياسة الخارجية حيث بدأ بتأكيد التحالف الألماني الفرنسي، أوروبياً، وتعزيز العلاقات الفرنسية الأميركية، بدعوة الرئيس دونالد ترامب الى الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي في ١٤ تموز(يوليو)، مع السعي الناجح لتصحيح العلاقات بين فرنسا وروسيا الاتحادية، وكانت هذه العلاقات قد ساءت ايام الرئيس فرانسوا هولاند مع الرئيس فلاديمير بوتين وإدارته. وهذه الدهشة العالمية والفرنسية التي رافقت انتصارات مكرون، تجعل المراقبين يتساءلون عن المرحلة المقبلة من التحديات، وهي بصورة خاصة مرحلة الإصلاحات المطلوبة على صعيد الجمهورية وأبرزها ما يلي: أولاً: الدولة الفرنسية، ومثلها دول كثيرة، واقعة تحت أعباء دين عام يتجاوز ألفين ومئتي مليار يورو، وقد تراكم هذا الدين على مدار السنين والعهود من يمينية ويسارية، فلم تستطع أي حكومة أن تحدّ منه أو تجمده، لاسباب واضحة: منها أن الدخل القومي العام لا يستند الى ثروات طبيعية هائلة، كالنفط والغاز أو المعادن مثلاً، كي تتمكن الحكومة من الاعتماد على ذلك في تسديد الديون. ومنها أن محاولات التقشف في المصروفات الإدارية والمالية الأخرى، تصطدم باعتراض المواطنين والنقابات على المساس بالضمان الاجتماعي أو المستشفيات، وكذلك بموازنات التعليم ومختلف الخدمات، وفِي هذا ما يطرح أمام الرئيس ماكرون وحكومة فيليب مسؤوليات ضخمة تتعلق بقانون العمل والتوفيق بين مصالح الاجراء والشركات. ثانيا: فرص الاستثمار داخل فرنسا شبه مجمدة سواء بالنسبة إلى الصناعيين الفرنسيين أم بالنسبة إلى الرساميل الأجنبية المفروض توظيفها في المشاريع الكبرى. وذلك عائد الى النظام الضريبي الصعب والمعقد الذي يجعل الأثرياء الفرنسيين يتهربون منه ويلجأون إلى بلجيكا او اللكسمبورغ او سويسرا او الى المحميّات الضرائبيّة الأخرى في العالم هرباً من دفع الضرائب الباهظة التي يشكون منها. وفي هذا المجال أيضاً فإن إرادة الحكومة تعديل قوانين الضرائب تشجيعاً لأصحاب الرساميل كي يعودوا بها من الخارج الى الداخل، تصطدم برفض الشارع الذي يستطيع اليسار تعبئته بسرعة في إضرابات وتظاهرات للنقابات العمالية على طريقتها، لمنع الحكومة وبالتالي البرلمان من التصويت عليها، فكيف تستعاد الثقة بالاقتصاد الفرنسي وماذا تخبئ ولاية مكرون من مفاجآت إيجابية على هذا الصعيد؟ ثالثا: أبرز ما يشغل الفرنسيين حالياً ومعهم الأوروبيون والغربيون عموماً هو موضوع الأمن ومكافحة الإرهاب وهذه القضية المعقدة التي تأخرت الحكومات المتلاحقة في التنبّه لخطورتها، تقتضي نظرة شمولية من الدولة، لا تقتصر على الحزم الإداري والحسم العسكري بل تشمل قبل كل شيء نظرة عقلية سليمة للأسباب التي تولّد الإرهاب والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الحاصل بين شرائح كثيرة من المجتمع حيث ينمو العنف والغضب وبالتالي الإرهاب في المناطق السكنية المنكوبة بالحرمان والتجاهل وحيث تتزايد احتمالات الإخلال بالأمن مع تزايد الكراهية المتبادلة بين مواطنين ومواطنين، لم يبق الحديث عن النظام العلماني كافياً لمنع حصولها، بل صار معروفاً ان العنصرية والطائفيّة والمذهبيّة تهدد وحدة المجتمع اذا لم تعمل الدولة على حماية القيم والمبادئ المنشودة في الوقت الذي تعمل فيه على إنصاف حاملي الجنسيّة الفرنسيّة جميعاً لتأمين المساواة بينهم والحديث عن الأمن والأمان والسلام الأهلي يقتضي التوقف أيضاً عند مئات الآلاف من الأجانب الذين يعيشون في فرنسا إما من غير اوراق شرعية، وإما مع بطاقات إقامة موقتة تتجدد بين فترة وأخرى من دون البتّ النهائي في مصيرهم وهذا مطلب ملحّ آخر يتحتم على ولاية الرئيس ماكرون أن تتحمّله. رابعا: وبالانتقال الى السياسة الخارجية يتبين أن الرئيس ماكرون واعٍ لما يجري في العالم ويحرص بالطبع على مجاراة الأحداث للتوفيق بين علاقات بلاده مع الدول الكبرى من ناحية وتأمين استمرار الحضور الفرنسي في العالم، لاسيّما في البلدان الفرنكوفونيّة حيث أصبح للصين مثلاً حضورها الواسع على أكثر من صعيد وحيث تتصادم المساعدات الأمنية والعسكرية للبلدان الأفريقية او سواها مع وجوب التحرك الفرنسي إنسانياً وعملياً تلبية لحاجات الدول النامية وشعوبها بعيداً من ذكريات الاستعمار الكريهة. أثبت الرئيس ماكرون، بحسٍّ سليم واضح، انه واعٍ لما يجري دوليّاً، ويبقى ان تتحرّك الديبلوماسيّة الفرنسيّة بتوجيهات جديدة، لاجتذاب الصداقة لدى الشعوب الأخرى وفِي هذا بالتأكيد ما يساعد على منع ظهور الإرهاب وانتشاره. خامساً: العلاقات الفرنسيّة مع العالم العربي ومع الشرق الأوسط عموماً علاقات جيدة وقديمة ولا ينقصها إلا الوضوح في ما يتعلق بالأزمات التي يعيشها العرب منذ إطلاق «الربيع العربي المشؤوم» سواء في سورية ولبنان أو العراق وإيران أو اليمن أو على الأخص على صعيد النزاع العربي الإسرائيلي، حيث التزمت فرنسا رسمياً حل الدولتين بينما عارضت إسرائيل ذلك لأنها تطمح الى توسيع احتلالها الاراضي الفلسطينية وسواها من الأراضي العربية الأخرى معتمدة على قوتها العسكرية ونفوذها في العالم. ولعلّ أهم ما يؤدي إلى تعديل في المواقف الإسرائيلية الراهنة هو اتفاق الدول الكبرى في ما بينها على دعم حلّ الدولتين والسعي المشترك لدى إسرائيل كي تقبل بالسلام الدائم مكتفية بما حصلت عليه حتى العام ١٩٦٧. وأما الموقف الفرنسي من أزمات الخليج مع إيران على الاخص -وإيران حالياً شريك اقتصادي وتجاري مهمّ لفرنسا- فتمكن بلورته بمبادرات تحمل دول الخليج العربية على الاطمئنان لسياسة إيران بدلاً من أن تفاجأ دائماً بتدخلات إيرانية مشبوهة ضدّ استقرار دول مجلس التعاون، وما حصل في الكويت خلال الأيام الأخيرة دليل جديد على أن إيران طامعة في بسط نفوذها على الآخرين وهذا مما لا يسلّم به أيّ مسؤول عربي ملتزم بالسيادة الوطنيّة تعبيراً عن إرادة المواطنين العرب أنفسهم. * كاتب لبناني
مشاركة :