في محاضرة عن الأندلس، مطلع التسعينيات، قال أستاذ تاريخ جامعي محاضر إن غياب "النقل الإعلامي السريع" كان أحد أهم أسباب اختفاء رد فعل البلاد العربية لنجدة المسلمين في إسبانيا وقت سقوطها؛ إذ إن بعض بلدان العراق -بحسب توثيقه- لم تسمع بسقوط الأندلس إلا بعد عام أو عامين. صدق الأستاذ في المطلع، فكتب التاريخ تحكي أنه قبل دخول القرن الثالث الهجري، انزلقت شمس الأندلس نحو الغروب، حين انقسمت ولاياتها على النفوذ وتنازع أمراؤها على السلطان، في وقت أخذ الإسبان فيه بكل أسباب النصر فجهزوا الجيوش واتحدت ممالكهم ودويلاتهم وانصهرت في كيان واحد. لكن جانب الظل في تاريخ تلك الحقبة، كيف كانت ردات فعل العرب في بلاد المسلمين المترامية حتى بلاد ما وراء النهر؟ وإذا سلمنا بأن بعض مناطق العرب قد غاب عنها سقوط الأندلس، فهل شكل هذا الغياب كافة بلاد الإسلام، لا سيما المتاخمة لها، أو أصحاب الجيوش سهلة الحشد والتسليح في مصر والشام؟ يحكي الدكتور محمد عبد الله عنان، في كتابه "نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين"، حول ردود أفعال البلاد المتاخمة للأندلس وقت سقوطها، أن سلاطين بنو مرين ببلاد المغرب الأقصى أرسلوا جيوشا عديدة لإنقاذ أهل غرناطة، وأن تلك الجيوش قد نفذت إلى طليطلة ومدريد ولكنها لم تحقق انتصارات ساحقة على القشتاليين، وكانت تكتفي بطردهم دون تعقبهم في كثير من المعارك". ويرصد أيضا تدخل المرابطين والموحدين لإنقاذ أهل غرناطة، حيث استطاعوا تحقيق انتصارات في الزلاقة 1086م والأرك 1195م أمدت من عمر المسلمين في الأندلس أكثر من مائتي عام. وكذلك فعل ملوك الحفصيين في تونس. لكن تلك الهجمات المساعدة لم تكن ذات جدوى فاعلة، وسرعان ما توقفت بفعل الأحداث الداخلية للبلاد، حتى إن عنان يحكي أنه "وأثناء حصار إشبيلية عام 1247م انشغل أبو زكريا بن أبي حفص بأموره الداخلية واكتفى بإرسال سفينة ممتلئة بالسلاح والمال والمؤن لأهل اشبيلية للأسف استولي عليها القراصنة الإسبان قبل وصولها، فسقطت المدينة في العام التالي". ويخلص عنان إلى أن "الزيانين والوطاسية والمرينين والحفصيين كانوا يعيشون أوضاعا داخلية سيئة في ذلك الوقت لم تمكنهم من تحقيق الغرض المرجو منه تجاه الأندلس وأهلها". هذا إذن كان موقف البلا المتاخمة للأندلس، بانقساماتها وتشرذمها، لكن أين كانت الأخت الكبرى، مصر؟ وأين كانت دولة السلطان في تركيا؟ هل غاب عنهم معرفة ما يدور في الجزيرة الأيبيرية؟ يذكر ابن إياس الحنفي، المؤرخ المصري، في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، في حوادث سنة 886هـ (1481م) أنه: "وفيه جاءت الأخبار من بلاد الغرب أن أبا عبد الله محمد بن الحسن بن علي بن سعد بن الأحمر قد ثار على ولده الغالب بالله صاحب غرناطة وملكها منه وجرت بينهما أمور يطول شرحها وآل الأمر بعد ذلك الى خروج الأندلس عن المسلمين وملكها الأفرنج والأمر لله في ذلك..". وتحكي المصادر أنه لما أجهز الإسبان على مملكة غرناطة -آخر معاقل المسلمين في الأندلس في 1489م- أرسل ملكها رسائل استغاثة لكل ملوك العالم المسلم، وكان من بين من تأكد وصول الرسالة إله الأشرف قايتباي في مصر والسلطان بايزيد الثاني في تركيا. ولم تكن الأخبار المروية على لسان الرحالة مصدر الأخبار وحدها، بل اتخذت الطابع الرسمي النظامي، بحسب رواية ابن إياس. ففي نوفمبر عام 1487م، وفدت إلى القاهرة سفارة من بلاط غرناطة تطلب من سلطان مصر آنداك الشرف قايتباي التدخل لإنقاذ الأندلس. يقول ابن إياس في حوادث عام 892هـ (1487م): "وفي ذي القعدة جاء قاصد من عند ملك الغرب صاحب الأندلس، وعلى يده مكاتبه من مرسله تتضمن أن السلطان له تجريدة تعينه على قتال الفرنج، فإنهم قد أشرفوا على أخذ غرناطة وهو في المحاصرة معهم، فلما سمع السلطان ذلك اقتضى رأيه أن يبعث إلى القسوس الذين بالقُمَامة (كنيسة القيامة) التي بالقدس بأن يرسلوا كتابا على يد قسيس من أعيانهم إلى ملك الفرنج صاحب نابل (يقصد نابولي) بأن يكاتب صاحب اشبيلية بأن يحل عن أهل غرناطة ويرحل عنهم وإلا يشوش السلطان على أهل القمامة ويهدمها، فأرسلوا قاصدهم وعلى يده كتاب إلى صاحب نابل كما أراد السلطان فلم يفد ذلك بشيء وملك الإفرنج غرناطة فيما بعد..". لا يهمنا هنا السرد الوقائعي التاريخي بقدر ما يهمنا الخروج بمعلومة أن المسلمين حول الأندلس لم يكونوا بمعزل عما يجري فيها، حتى إن ابن إياس يقول في حوادث سنة 890هـ (1485م): "وفي رجب، أتت الأخبار أن الفتن هناك قائمة والأمر لله..". نعود لنظرية الأستاذ المحاضر حول علاقة غياب الإعلام السريع بردة الفعل المتثاقلة من قبل العرب المسلمين، بدا الأستاذ واثقا للغاية من النتيجة التي خلُص إليها، وهي أنه لو ملك المسلمون، وقتذاك، تقنيات النقل الإعلامي المعاصرة، لما سقطت الأندلس، أو على الأقل، لما سقطت بتلك السهولة. لكن على ما يبدو أن النظرية تحتاج مراجعة كبيرة، فالتاريخ يقو خلاف ذلك، كانت الأخبار تترى على بلاد المسلمين يوما بعد يوم بأفول شمس بلاد الأندلس، وكان القاصي والداني يعلم -من النهر إلى النهر- بأن الصليب يبتلع ما تبقى من حصون المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية. وعلى أي حال، فقد مرّت الأيام وجاء عصرنا الحديث بإعلامه وتقنياته، وها هي البلاد تصارع من أجل الحياة -كافرة أو مؤمنة- تنقل منصات الإعلام في كل لحظة وقائع السقوط، ثم لا أحد قد تحرك، لا يبدو أن المشكلة كانت في الإعلام إذن، ثمة قطعة أخرى ناقصة في فسيفساء الصورة! بعد تأمل وسكون، أضحت نظرية الأستاذ هشة للغاية في ناظري.. وحلت محلها كلمات جارنا العامي البسيط: من تحرَّق تحرَّك! - تم نشر هذه التدوينة في موقع ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :