جميل مطر لفيروس «كورونا» المستجد؛ (كوفيد 19) فضل علينا؛ بل له عدة أفضال. من هذه الأفضال أن بعض الناس عرفوا كم كانت جميلة المدن وكريمة الطبيعة قبل أن يعيثوا فيها فساداً. من الأفضال أيضاً أن بدونه، وأقصد الفيروس، وفي غيبته الطويلة لم يكن من المعتاد أن يجلس كاتب أو باحث ويكتب مقالاً أو خطة دراسة عنوانها: ماذا لو سقطت أمريكا؟! أكاديمياً، تناول علماء السياسة الموضوع عدة مرات في السنوات اللاحقة؛ لحصول عشرات المستعمرات على استقلالها. كانوا يسألون إن كانت هذه المستعمرة أو تلك تستطيع أن تستمر كدولة بعد اعتراف العالم لحكامها الوطنيين بالسيادة.نحن أنفسنا في عالمنا العربي نشأنا كتلاميذ في رحاب العلوم السياسية، والسؤال الحائر من دون جواب بيننا، وبيننا وبين أساتذتنا كان المتعلق بمدى إمكانية أقطار عربية، نشأت بانسحاب قوات الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي، الصمود أمام مسؤوليات ترتبت على قادتها؛ نتيجة الاستقلال. أذكر أن البحث لإجابة عن هذا السؤال كان وراء اهتمام بعضنا بجامعة الدول العربية ثم وراء خيبة أملنا فيها؛ إذ أثبتت الجامعة بما لا يدع مجالاً للشك أن بعض هذه الأقطار حديثة الاستقلال ما كانت لتبقى طويلاً دولاً مستقلة أو تنمو ويشتد عودها وتعتدل في وقفتها لو لم تكن حازت عضويتها ومقاعد في مجالسها. هذه الجامعة على ضعفها وعجزها عن أداء أبسط أدوارها كانت أيضاً ضرورة أو شرطاً كامناً، فرضته الدول العظمى لقبول هذا البعض من الدول العربية حديثة الاستقلال أعضاء في الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.هذا السؤال كان على الدوام مشروعاً بالنسبة لأوضاع دول في أقاليم أخرى غير الشرق الأوسط، أقاليم لم تتطور فيها الكيانات تاريخياً وسياسياً واجتماعياً بشكل طبيعي، ومن دون تدخل خارجي لتصير دولاً ذات سيادة. السؤال أيضاً يعد مبرراً في أجواء نعيشها الآن في مرحلة هجمة الفيروس الكوروني على دول عديدة. نسأل السؤال كلما حاصرتنا إحصاءات تلاحق الفيروس. نقترب منه ومن غزواته فينتقل إلى مناطق ودول أخرى. نقترب أكثر فيشدد قبضته معلناً بكل الثقة الممكنة أنه في هذا الصراع يكسب أرضاً بينما تفشل حتى تكاد تسقط دول عديدة الواحدة بعد الأخرى. بعض هذه الدول لم ينفعها في هذه الحرب ضد الفيروس استقلالها ولا الدساتير المنظمة للحكم فيها ولا درجة تحضرها وتقدمها ولا الصواريخ البالستية وحاملات الطائرات. كنا قبل أيام قليلة شهوداً على فيروس احتل حاملة طائرات بعد أن أوقع في حباله عدداً غفيراً من بحارتها ومن ضباط وجنود البحرية الأمريكية. كانت فرصة نادرة لنشهد حالة فزع رهيب في صفوف قيادات الدولة الأعظم. تابعناهم يحاولون التعتيم على ما دار من جدل مبرر حول قيمة هذه القطعة الحربية من القوة الجبارة وكلفة تشغيلها في مواجهة فيروس لا يكاد يرى. في الوقت نفسه ما زلنا في حال انبهار لما حققه هذا الفيروس من انتصار ساحق على دولة كانت دائماً من النماذج البارزة على أهمية القوة الناعمة في حسابات توازنات القوة في العلاقات الدولية. رأينا الصدام على أشده في ميلانو وغيرها من مدن البيدمونت في شمال إيطاليا. لن نجافي الحق والعدل إن كنا حكمنا للفيروس بالنصر في معركته ضد أحد أهم قلاع الفن في تاريخ البشرية.في ظني أن السؤال يبقى أيضاً مشروعاً ما بقيت دول وقامت علاقات بينها أو نشبت صراعات. ألم يكن أبناء جيلي شهوداً على سقوط ألمانيا للمرة الثانية في أقل من ربع قرن وسقوط النمسا وبلاد التشيك من دون قتال قبل نشوب الحرب العالمية الثانية. كانوا أيضاً شهوداً وربما ضحايا أو ثمرات سقوط الإمبراطوريتين العثمانية والسوفيتية. ألم تسقط إمبراطورية المغول في الهند على أيدي حفنة من موظفين وضباط مرتزقة في شركة الهند الشرقية في عام 1858 بعد عمر ناهز الثلاثمئة عام.سقطت دول غير قليلة. سقطت دولة الأندلس وممالك أخرى في أوروبا. سقطت إمبراطورية مالي في إفريقيا وأكثر من إمبراطورية للهنود الحمر في الأمريكتين. سقطت أكثرها؛ نتيجة تخريب داخلي أو إهمال أو فساد أو فقدان العصبية وكلها قال عنها قبل مئات السنين ابن خلدون بأنها تعد شروطاً لسقوط الدول. قضيت ساعات عديدة خلال الشهور القليلة الماضية، وساعات أخرى قضاها زملاء ومراقبون من مختلف الجنسيات والأعراق، قضيناها نراقب على الشاشات جداول بأرقام الحال المتدهورة للولايات المتحدة الأمريكية. تحتار وأنت تقارن قوائم بأرقام تعلن تدهور أغنى اقتصاد بالعالم وقوائم بأعداد المصابين بالفيروس وقتلاه، وتسأل لماذا تكون الدولة الأغنى والأكثر تقدماً وتحضراً ونصيباً في الثروة العالمية هي الدولة التي تجاوز عدد موتاها على يد الفيروس الملعون ثلث موتاه في العالم بأسره بينما لا يزيد نسبة سكانها إلى مجمل سكان الكوكب على 5%.هذه علامات قليلة من علامات كثيرة تثير جميعها وبإلحاح الرغبة في الحديث عن مستقبل دولة عظمى واحتمالات سقوطها. يبقى أيضاً مثاراً السؤال التالي، لو كانت العلامات بالفعل جادة وخطرة وليست مجرد فصل في سردية افتراضية فما العمل؟
مشاركة :