د. أحمد سيد أحمد *على خلاف معركة تحرير الموصل التي استغرقت تسعة أشهر وتمت على مرحلتين، نجحت القوات العراقية في تحرير مدينة تلعفر وقضائها في أقل من أسبوع على إعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، في 20 أغسطس انطلاق عملية تحرير مدينة تلعفر وقضائها من تنظيم «داعش» الإرهابي.المعركة جاءت سهلة وسريعة والتي أخذت شعار «قادمون يا تلعفر»، شارك فيها 40 ألف فرد من قوات الجيش من الفرقة المدرعة التاسعة، وفرقة المشاة 15، والفرقة 16، وقوات المدفعية والهندسة العسكرية، كذلك قوة مكافحة الإرهاب التابعة للعمليات الخاصة الأولى والثالثة، وقوات الشرطة الاتحادية من الفرق الآلية وفرقة الرد السريع، والفرقة السادسة، إضافة إلى مشاركة ما يقارب 20 ألفا من ألوية ميليشيا الحشد الشعبي، وبدعم من قوات التحالف الدولي جوياً ولوجستياً، وقد تم تقسيم المهام، حيث حاصرت القوات المختلفة قضاء تلعفر، والقتال على محاور المحلبية والعياضية، وقرى تمتد من جنوب غرب الموصل إلى محيط تلعفر، وعددها 47 قرية، بينما دخلت قوات مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية مركز المدينة وحررت أحياءها الثمانية والعشرين.معركة تحرير تلعفر جاءت أكثر سهولة نسبياً، مقارنة بمعركة الموصل، سواء من حيث الوقت والخسائر لأسباب عدة:أولاً: الوضع الميداني لمدينة تلعفر من حجم ساحة المعارك، فرغم أن قضاء تلعفر يعد من أكبر الأقضية في العراق إلا أن مساحة المدينة صغيرة وتضم 28 حياً، وفيها عدد سكان أقل يصل إلى 200 ألف نسمة، غادر معظمهم المدينة خلال معركة الموصل، وبقي فيها ما يقارب العشرين ألف نسمة، وهو ما قلل من خسائر المدنيين على خلاف الموصل التي كانت تضم مليوناً ونصف المليون شخص، سقط كثير منهم خلال المعارك، ومحاولات النزوح والهروب خارج المدينة، واستخدام التنظيم لهم كدروع بشرية، ولذلك جاءت المعركة أقل تكلفة، سواء من حيث عدد الخسائر في القوات العراقية، أو في صفوف المدنيين.ثانيا: عدلت القوات العراقية المهاجمة من خطتها في التحرير، حيث اعتمدت على اقتحام المدينة من محاورها الخمسة كافة، في التوقيت نفسه، وهو ما فاجأ عناصر تنظيم «داعش»، وشتت انتشارهم، ما انعكس في انهيار دفاعاتهم وانسحابهم، ما ساعد القوات المتقدمة على تحرير القرى المحيطة بالمدينة، إضافة لانهيار معنوياتهم، وحالة الإنهاك الشديدة لهم بعد معركة الموصل، إضافة إلى انخفاض عددهم الذي تراوح ما بين ألف وألفي عنصر، غير قادرين على مواجهة القوات المهاجمة، خاصة مع انحسار مصادر تمويلهم من الأسلحة، والعتاد، والتموين، نتيجة لسياسة الحصار والتطويق التي فرضت عليهم خلال الفترة الماضية، وقطع مصادر الإمداد بينهم وبين عناصر التنظيم في سوريا. وساهمت الهزائم المتكررة للتنظيم خلال العام الأخير في الفلوجة، وتكريت، والأنبار، والموصل، وكذلك في سوريا في حلب، والرق،ة وجرابلس، وغيرها، في إضعاف قدرات التنظيم العسكرية واللوجستية بأكثر من 90% إضافة لمقتل معظم قادته، وبالتالي افتقاده القيادة والسيطرة والاتصال بين عناصره، وفرار عدد كبير منهم خاصة من المقاتلين الأجانب إلى خارج العراق وسوريا، وصعوبة تجنيد مقاتلين جدد بعد انكشاف مزاعم التنظيم حول ما يسمى بالخلافة، وانقلاب السكان المحليين عليه.ثالثاً: اكتسبت القوات العراقية خبرة كبيرة من معركة الموصل في التعامل مع حروب المدن والشوارع والأحياء، والتعامل مع تكتيكات التنظيم، مثل زرع الألغام في الشوارع، ونشر القناصة على أسطح البنايات، واستخدام السيارات المفخخة، والأنفاق، والمدنيين كدروع بشرية، وكذلك الطائرات المسيرة، وهو ما ساعد على قصر وقت المعركة وتقليل الخسائر في صفوف القوات العراقية، وانعكس في سرعة تقدمها داخل المدينة، وتحرير أحيائها الواحد تلو الآخر، بعد أن نجحت خلال الأيام الأولى في اختراق دفاعات التنظيم، والوصول إلى وسط المدينة والسيطرة على قلعتها التاريخية.رابعاً: رغم أن تلعفر تعد آخر معقل للتنظيم في محافظة نينوى التي كان من المفترض أن يدافع عنها بشراسة بعد انتهاء الخلافة الإسلامية المزعومة في الموصل، واللجوء إلى تكتيكاته السابقة، إلا أنه أدرك أن المعركة محسومة لمصلحة القوات العراقية، وأن استمرار المقاومة ستكلفه ما تبقى من عناصر التنظيم في ظل غياب القيادة المسيطرة على تلك العناصر، وفي ظل التفاوت الكبير بين قدراته وبين قدرات القوات العراقية، ما دفعه إلى محاولات الفرار إلى خارج المدينة والهروب إلى الحويجة والعياضية، ما أفسح الطريق أمام القوات العراقية للتقدم السريع.لكن مع تحرير تلعفر تبرز تحديات عدة لما بعد هزيمة «داعش» في المدينة:} أولها: تحديات عسكرية وأمنية ترتبط بتأمين المدينة، وتطهير أحيائها من عناصر «داعش» المتبقية التي تعمل كخلايا نائمة تشكل تهديداً للقوات العراقية والمدنيين، عبر القيام بعمليات انتحارية واستخدام السيارات المفخخة، كما حدث في المدن العراقية السابقة التي تم تحريرها.} ثانيها: حسم مصير القوات المشاركة في عملية تحرير تلعفر، خاصة ميليشيا الحشد الشعبي التي شاركت في المعركة بشكل مباشر، على خلاف معركة الموصل التي تم حصر دورها في التطويق وفي محيط المدينة، حيث شاركت ألوية الحشد الاثني عشر باستثناء عصائب أهل الحق، وما يعرف بحزب الله العراقي الذي أعلن الانسحاب، نتيجة لاعتراضه على مشاركة قوات أمريكية برية في المعارك. بينما شاركت بقية الأولوية مع قوات الشرطة الاتحادية في تحرير القرى وبعض أحياء المدينة من المحور الغربي. وتبرز أهمية تقرير وضع تلك القوات وانتشارها في ظل الوضع الخاص لمدينة تلعفر التي يتكون سكانها من أغلبية تركمانية وتتميز بالتعدد الطائفي والعرقي، خاصة في ظل الاعتراضات العديدة من جانب سكان المدينة على مشاركة ميليشيا الحشد، كذلك اعتراض تركيا التي هددت بالتدخل للحفاظ على الطابع التركماني لقضاء تلعفر إذا ما حدث تجاوزات من الحشد الشعبي. وهنا تبرز أهمية انسحاب ميليشيا الحشد الشعبي من القضاء والاعتماد على قوات الحشد العشائري من سكان المدينة لحفظ الأمن والسيطرة عليها، لأن بقاء قوات الحشد من شأنه أن يخلق توترات عسكرية ومواجهات، قد يستغلها تنظيم «داعش» للعودة مرة أخرى وتصعيد عملياته الانتقامية، كما أن استمرار ميليشيا الحشد الشعبي يثير التساؤلات حول أهدافه في خدمة أجندات دول إقليمية خارجية تسعى لاستغلال معركة تلعفر، لتنفيذ مشروعها في إقامة ممر بري بين العراق وسوريا.} ثالثها: إن تركيبة تلعفر الديموغرافية من حيث التنوع العرقي والطائفي تتطلب الحكمة والمعالجة السياسية للحفاظ على التعايش بين سكانها، وإعادة النازحين إليها، والإسراع في عملية إعادة الإعمار، ورغم أن معركة تلعفر شكلت نقطة تحول مهمة في القضاء على تنظيم «داعش» الإرهابي وخلافته المزعومة، لكن انتهاء التنظيم وتحرير المناطق التي يسيطر عليها لا يعني القضاء عليه تماماً، حيث سيلجأ إلى تكتيكات أخرى مثل العمليات الانتحارية ومهاجمة المدنيين وغيرها، وهو ما يتطلب الاستعداد لمرحلة ما بعد «داعش» والعمل على منع ظهوره مرة أخرى عبر معالجة حقيقية للعوامل التي أدت لظهوره وصعوده في الأعوام الماضية. * خبير العلاقات الدولية في «الأهرام»
مشاركة :