في عام 1949، سحبت الولايات المتحدة قواتها من شبه الجزيرة الكورية، وعقب ذلك ألقى وزير الخارجية الأميركي وقتئذ دين أتشيسون خطاباً هاماً حدد فيه مصالح الأمن القومي الأميركي، واستثنى كوريا خصوصاً. واليوم يتذكر عدد قليل من الناس استراتيجية خفض النفقات التي اتبعتها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان، مما أرسل إشارة قوية تظهر أن أميركا تعتزم تضييق مجال نشاطها العسكري. ولا تتعلق هذه الإشارة بسحب القوات الأميركية من كوريا، على النقيض من خطاب أتشيسون الذي اعتبر بمثابة إشارة تظهر تخلي الأميركيين عن كوريا الجنوبية. ولم يتسبب أتشيسون بالحرب الكورية التي نشبت في خمسينات القرن الماضي، لكن تم تذكر كلماته كحافز لهذه الحرب. وتكون الكلمات مؤثرة بشكل خاص بين المجتمعات التي لا تتفهم نوايا ودوافع بعضها بعضاً، تماماً كما يحدث الآن بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. وتهديد نظام مناوئ غير مستقر بالنار والغضب بسبب امتلاكه أسلحة نووية، يكون في معظم الحالات إنذاراً أخيراً يأتي مباشرة قبيل توجيه ضربة عسكرية حقيقية له، غير أن الرئيس ترامب ضاعف من تهديداته لكوريا الشمالية، مفترضاً أن ملاحظاته السابقة بشأنها ليست قاسية بدرجة كافية. ويبدو أنه قلل من فعالية الجهود الدبلوماسية مع بيونغيانغ واقترح أنه في حال إقدامها على تهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، فإن شيئاً لا يخطر على بال أحد قد يحدث لها. وبالنسبة لملاحظاته بشأن الجهود الدبلوماسية بشكل خاص قال ترامب إن بلاده تأخذ الدبلوماسية دائماً بعين الاعتبار، ولكن المفاوضات تجري منذ 25 عاماً دون نتيجة، ولكن هذه الملاحظات شكلت مفاجأة في الآونة الأخيرة عندما حققت البعثة الدبلوماسية الأميركية في الأمم المتحدة نجاحاً كبيراً، حيث تمكنت من الحصول على تصويت بالإجماع على في فرض عقوبات أكثر صرامة على كوريا الشمالية. ويبدو أن هذه الملاحظات نسفت تصريحات وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بأن الأميركيين ينبغي لهم الآن النوم جيداً لأن الضغوط الدبلوماسية على بيونغيانغ ستفضي في نهاية المطاف إلى النجاح. وملاحظات ترامب الأخيرة تتجاوز التصعيد الدبلوماسي للتوترات مع كوريا الشمالية منذ فرض العقوبات الأخيرة رداً على تجارب الصواريخ البالستية العابرة للقارات والقادرة على الوصول إلى الولايات المتحدة وتهديد مدنها. وقد حاول تيلرسون تهدئة المخاوف واصفاً تهديدات ترامب باستخدام النار والغضب إذا واصل الحكم الشيوعي تهديد واشنطن، بأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون. وعقب ذلك غرد ترامب على تويتر قائلاً إن الترسانة الأميركية الآن أقوى بكثير من أي وقت مضى، معرباً عن أمله بألا تضطر بلاده لاستخدامها على الإطلاق. وردت كوريا الشمالية على ذلك من خلال عرض خطة مفصلة لإطلاق صاروخ متوسط المدى على قاعدة غوام العسكرية الأميركية في المحيط الهادي. ويبدو أن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس كان أكثر تروياً في رده، فأبدى ملاحظاته بأن الخارجية الأميركية تبذل الجهود المكثفة لحل هذا التهديد العالمي من خلال الجهود الدبلوماسية، لكنه أضاف إن كوريا الشمالية ينبغي لها ألا تستبعد اتخاذ إجراءات يمكن أن تنهي نظام حكمها وتعريض شعبها للفناء. ومنذ تولي ترامب سدة الرئاسة مطلع العام الجاري، وخبراء الشؤون الخارجية يؤكدون على أهمية النظر إلى الإنجازات السياسية الحقيقية بدلاً من النظر إلى تصريحات الرئيس المثيرة للجدل في بعض الأحيان، ولكن عندما تعرض ترامب لضغوط لتفسير تصريحات وزير خارجيته تيلرسون وما إذا كانت إدارته ترسل رسائل مزدوجة، اعترف بأن تغريداته الأخيرة ربما كانت أقسى مما ردده سابقاً. وجاء ذلك بعدما تعرض نائب مساعد الرئيس سباستيان غوركا للقضية نفسها قائلاً إن تيلرسون ليس مخولاً بمناقشة المسائل العسكرية، فيما وصف متحدث باسم الخارجية وزير الخارجية بأنه يأتي في المرتبة الرابعة في الرئاسة الأميركية. ومن المؤكد أن أي عمل عسكري ضد كوريا الشمالية سوف تكون له عواقب وخيمة على حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا، خاصة أن كوريا الجنوبية واليابان تأويان نحو 70 ألف جندي أميركي، وستكون هاتان الدولتان أول من سيعاني من أي رد كوري شمالي على خطابات ترامب البلاغية، أو نتيجة استخدام القوات الأميركية في المنطقة. والمعروف أن نحو نصف سكان كوريا الجنوبية البالغ عددهم خمسين مليوناً يعيشون ضمن 50 ميلاً من المنطقة منزوعة السلاح في شبه الجزيرة الكورية. وتجري كوريا الشمالية بانتظام تجارب صاروخية وتسقط بعض الصواريخ في منطقة اقتصادية حصرية في اليابان. وقد حذرت كلتا الدولتين من تنفيذ تهديدها ضد قاعدة غوام. وتستعد اليابان لنشر صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ في مناطقها الغربية لحماية نفسها.
مشاركة :