«فردوس دانتي وجحيمه» لليست: موسيقى لرحلة الروح الأبدية

  • 9/1/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

منذ أزمان موغلة في البعد، تغري «الكوميديا الإلهية» لشاعر إيطاليا النهضوي دانتي، كبار الفنانين والأدباء بالاقتراب منها، استيحاء أو محاكاة، أو حتى في محاولات لترجمتها إلى أصناف أخرى من الفنون. ومن المعروف أن الفن التشكيلي، منذ عصر النهضة وصولاً إلى غوستاف دوريه ووليام بليك في القرن التاسع عشر، وسلفادور دالي في القرن العشرين، جرب حظه مع «الكوميديا» ونجح، على عكس فنون أخرى لم يحالفها التوفيق ذاته. ومرد ذلك بالطبع، صعوبة الدنو من عمل يستغرق مئات الصفحات وتنفرد أحداثه في تلك الأماكن البعيدة البعيدة، ويكاد يكون بعده الجوّاني أكثر ثراء من بعده البرّاني. ومن هنا ظلت «الكوميديا»، مثلاً، عصية على المسرح وعلى الأوبرا، ثم، في أزمان أقرب إلينا، عصية على السينما. > غير أن الموسيقى الأوركسترالية، لا المسرحية/ الأوبرالية، لم تجابَه بتلك الصعوبة ذاتها، ومع هذا كان نادراً جداً اقتراب هذا الفن التجريدي الخالص، من عوالم الما - وراء الدانتية. وحده المجري فرانز ليست حقق، إلى حد علمنا، ذلك الاختراق، واضعاً عملاً كبيراً، من الغريب أنه يكاد يبدو اليوم منسياً إلى حد ما. وربما يعود هذا النسيان الجزئي إلى غلبة أعمال أقل كلاسيكية وأكثر شعبية وربما فولكلورية أيضاً على «ريبرتوار» صاحب «الرابسودية الهنغارية»، إذ إن كثراً من هواة الموسيقى ينسون أن له مقابل أعماله الشعبية بل حتى الفولكلورية أيضاً، أعمالاً ثقافوية تنهل من بعض أكثر الأعمال نخبوية. ولا شك في أن موسقته للكوميديا الإلهية، وعلى الأقل من خلال موسقته لعلاقة مؤلف «الكوميديا» بنصه، تقف في مقدمة ذلك النوع من الأعمال. > على رغم هذا، كان عمل فرانز ليست المقتبس من «الكوميديا الإلهية» هو نتاجه الأشهر خلال النصف الثاني من أربعينات القرن التاسع عشر، حين تجاوز المؤلف بداياته الخجولة بعض الشيء والتي كانت تنم عن موهبة موسيقية كبيرة، لكنها لا تكشف عن اتساع في آفاق ثقافته كباحث في الموسيقى وفي النتاجات الثقافية في شكل عام، ليلج مصاف الكبار. وبالنسبة إليه، حينها، لم يكن ذلك الولوج ممكناً من دون الاستناد إلى كبار آخرين حقيقيين. وهكذا ما إن وجد في طريقه عملين ادبيين كبيرين يعتبران من شوامخ النصوص الاوروبية، حتى اندفع نحوهما دون وجل أو تردد. حدث ذلك أواسط الأربعينات من ذلك القرن، إذاً، وكان ليست بالكاد تجاوز الثلاثين من عمره... لكنه لن يقدم على التنفيذ الفعلي للعملين المرتبطين بالنصين المذكورين، إلا بعد ذلك بعشرة أعوام حين كانت عدته الفنية والتقنية قد اكتملت و... حسناً فعل. > العملان المعنيان هنا، هما «الكوميديا الإلهية» لدانتي، كما أشرنا، ثم مسرحية «فاوست» لكبير الأدباء الألمان في كل الأزمان، غوته. وكان لافتاً أن العملين يتسمان معاً، بطابع تأملي فلسفي وربما ميتافيزيقي أيضاً، ما شكل، في الوقت ذاته، تحدياً للموسيقي، وعوناً له أيضاً، طالما أن الموسيقى في ذلك العصر الذي غلبت عليه النزعة الرومانسية كانت، أيضاً، مكاناً يمكن للأبعاد الروحية أن تتجلى فيه. فهل كان يمكن للروح أن تجد لنفسها تجلياً اروع مما يتيحه لها نص غوته، ونص دانتي، على الفوارق المدهشة بينهما كما على نقاط التلاقي؟ > هكذا، إذاً، انطلق ليست في تأليفه الموسيقي المستوحى من العملين، وإذا كنا هنا سنتوقف فقط عند «الكوميديا الالهية»، فإن هذا لا يعني عدم وجود تواصل وتشابه- جواني- على الأقل بين العملين. كل ما في الأمر إننا نتحدث عن «الكوميديا الإلهية»، لأن «فاوست» غوته، كما موسقه ليست، يستأهل حديثاً مستقلاً آخر. والعمل الذي استوحاه فرانز ليست من رائعة دانتي، أطلق عليه موسيقياً اسم «دانتي- سيمفونية»، لكنه جاء في نهاية الأمر على شكل قصيدة/ سيفونية، اعتبرت دائما - وايضا، الى جانب «فاوست» - ابرز عملين طبق فيهما فرانز ليست نظريات موسيقية كان اعلنها، مركزا على الملاءمة فيها بين رومانسية متخمة بالابعاد الروحية، وكلاسيكية تحاول ان تدنو من الواقع والحياة نفسيهما. والحال أن نقاداً كثراً رأوا في العملين، وربما خصوصاً في «دانتي- سيمفونية» مبالغة في التطبيق للنظرية يضع العمل ككل في خانة شبه اكاديمية، غير أن الجمهور العريض الذي احتفل بهذا العمل وأحبه منذ البداية كان له رأي آخر: رأى في العمل تحفة من طراز نادر. وهو ما عاد النقاد والمؤرخون ليؤكدوا عليه بعد نسيان طويل. > منذ البداية كان ليست مدركاً الصعوبات التـي تمثلهـا الترجمة الموسيقية لعمل من طراز «الكوميديا الإلهية»، حتى وإن كان المنطق يفرض عليه بالطبع، أن يكتفي بالتعاطي مع فصول قليلة ومحدودة من ذلك العمل الفسيح. ومن هنا نراه يحاول، بدلاً من التحقيب، خوض لعبة توليف واضحة بين المواقف والفصول تختصر النص ومساره، لتتوقف عند ما هو أساسي وذو دلالة حاسمة فيه. وعلى هذا النحو، قسم ليست القصيدة السيمفونية هذه إلى ثلاثة أجزاء، سندرك لاحقاً، أن الاثنين الأخيرين منها، مرتبطان ببعضهما ببعض. أما الجزء الأول، ويحمل طبعاً عنوان «الجحيم»، فإنه لُحّن على شكل ثلاثية، تبدأ بمقدمة هي أشبه بمدخل إلى العمل ككل، أتى قوياً ومفعماً بالبعد الدرامي، انطلاقاً من استخدام كلي الحضور، للآلات النحاسية التي حددت «التيمة» الأساسية للعمل. وبعد ذلك المدخل تتحول الموسيقى إلى بعد غنائي عاطفي يجسد أمامنا حكاية الغرام بين باولو وفرانشسكا، قبل أن تنتقل بعد ذلك وفي شكل عاصف إلى خاتمة ذلك القسم المثلث. > بعد «الجحيم» يأتي الفصل الثاني، فصل «المطهر» بالطبع... وهنا بدا من الواضح أن ليست يريد أن يلج استراحة معينة يصور فيها هدوء الأرواح وقد أدركت أنها باتت شديدة القرب من أبواب الفردوس. وأن لا شيء يمكنه منذ تلك اللحظة العودة بها إلى الجحيم... وهكذا يبدأ هذا القسم بلحن رزين يقدم خصوصاً من طريق آلات النفخ (الكورات، والأوبوا، مع إطلالات للكلارينات أتت دائماً ممهدة لتدخّل الآلات الوترية). والحال أن هذا التدخل كان بدوره لفسح المجال أمام ألحان شديدة العذوبة والهدوء تغرق السامع في أحلام ما ورائية مدهشة... وإذا كانت هذه الألحان تتزامن وتتقاطع متعددة، فان لحناً واحداً منها سرعان ما يتجلى وحيداً مؤكداً ذاته وحضوره على حساب الألحان الأخرى. وهذا اللحن هو من ذلك النوع المسمى عادة «ماغنيفيكات» والذي يتسم بطابع ديني أحياناً، ويستخدم كثيراً في الاوراتوريو. أما هنا فإنه، سرعان ما يسمح بظهور الكورس من دون سابق إنذار ليندغم نشيد هذا الكورس في البعد السيمفوني اللاجئ إلى دمج الآلات كلها في بوتقة لحنية واحدة. وهذا يمهد بالطبع للقسم الأخير من العمل حيث تبدو الموسيقى اكثر هدوءاً وجلالاً، ما يختتم العمل كله على آفاق وجدانية روحية تذكر بأجمل ألحان باخ الدينية. > إذا كان ليست، في بعض أعماله، قد توجه إلى الأدب يستلهمه، فإن هذا يجب أن يذكرنا بأن حياته ذاتها، هو الذي عاش بين 1811 و1886، كانت تبدو طالعة من عمل روائي ينتمي إلى القرن الذي عاش فيه، بكل ما شهدته تلك الحياة من أجواء رومانسية ودرامية. فهو قدم أول حفل له حين كان في التاسعة، ثم التقى بيتهوفن وهو في الثانية عشرة، وأثار إعجابه إلى درجة أنه بعد تقديم عزف قام به وهو الطفل في فيينا، صعد بيتهوفن إلى المسرح بكل عظمته وعانقه بتواضع. ومنذ تلك اللحظة بدأت شهرة ليست تكبر، وراح يجول بين المدن الأوروبية، عازفاً، مؤلفاً وعاشقاً... وأنجب ثلاثة أطفال قبل أن يدخل ديراً في روما ويدرس اللاهوت. > أبدى ليست دائماً إعجاباً كبيراً بباغانيني، ما جعله يرغب في أن يكون بالنسبة إلى آلة البيانو ما كانه المعلم الإيطالي بالنسبة إلى آلة الكمان. وكان لهذه الرغبة أثر في طغيان شهرته كعازف على شهرته كمؤلف... ومع هذا فإن التاريخ حفظ له مكانته كواحد من كبار مجددي الموسيقى الرومانطيقية، هو الذي معه ولد ما سمي لاحقاً «القصيدة السيمفونية». كذلك، عُرف ليست لاحقاً بمساعدته كل زملائه الموسيقيين حين تواجههم صعوبات، وكان من بينهم فاغنز الذي ارتبط معه بصداقة لا سيما في بايروث التي لفظ فيها أنفاسه الأخيرة.

مشاركة :