وحزمت صحائفي إلى صحيفة الرياض بحثاً عن إكسيرٍ للسعادة، والبحث عنه فرعٌ عن احتمال وجود فردوس أرضي، ولأبدأ بكتاب الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي، الذي يحدّثنا عن مكان فردوسي في هذه الدنيا، ينبغي لك أن تذوق منه شربتك التي لا تظمأ بعدها أبداً، ثم تلِج بعد ذلك مباهج الخلود. وتبدأ مباهج الخلود من التخلص الأول من الموت، وذلك عند ملتقى البحرين بزعم الجيلي، وهو يقول: "لما مرج البحرين يلتقيان جعل الله بينهما ماء الحياة برزخاً لا يبغيان، وهذا الماء في مجمع البحرين وملتقى الحكمين والأمرين، وهو عين ينبع جاريًا في جانب المغرب عند البلد المسمى بالأزيل المغرب، فمن خاصية هذا البحر المعين الذي خلقه الله في مجمع البحرين أن من شرب منه لا يموت". إلى أن يقول: "ومجمع البحرين هذا هو الذي اجتمع فيه موسى - عليه السلام - بالخضر على شطه؛ لأن الله تعالى كان قد وعده بأن يجتمع بعبد من عباده على مجمع البحرين، فلما ذهب موسى وفتاه حاملاً لغدائه، ووصلا إلى مجمع البحرين لم يعرفه موسى عليه السلام إلا بالحوت الذي نسيه الفتى على الصخرة، وكان البحر مدًا، فلما جزر بلغ الماء إلى الصخرة، فصارت حقيقة الحياة في الحوت، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، فعجب موسى من حياة حوت ميت قد طُبخ على النار". ويضيف: "سافر الإسكندر ليشرب من هذا الماء اعتماداً على كلام أفلاطون أن من شرب من ماء الحياة فإنه لا يموت؛ لأن أفلاطون كان قد بلغ هذا المحل وشرب من هذا البحر؛ فهو باق إلى يومنا هذا في جبل يسمى دراوند، وكان أرسطو تلميذ أفلاطون، وهو أستاذ الإسكندر، قد صحب الإسكندر في مسيره إلى مجمع البحرين، فلما وصل إلى أرض الظلمات ساروا وتبعهم نفر من العسكر، وأقام الباقون بمدينة تسمى ثبت... وهو حدّ ما تطلع الشمس عليه، وكان في جملة من صحِب الإسكندر من عسكره الخضر عليه السلام، فساروا مدة لا يعلمون عددها ولا يدركون أمدها وهم على ساحل البحر، وكلما نزلوا منزلاً شربوا من الماء، فلما ملّوا من طول السفر أخذوا في الرجوع إلى حيث أقام المعسكر، وقد كانوا مروا بمجمع البحرين على طريقهم من غير أن يشعروا به، فما أقاموا عنده ولا نزلوا به؛ لعدم العلامة، وكان الخضر - عليه السلام - قد أُلهِم بأنْ أخذ طيراً فذبحه وربطه على ساقه، فكان يمشي ورجله في الماء، فلما بلغ هذا المحل انتعش الطير واضطرب عليه، فأقام عنده وشرب من ذلك الماء واغتسل منه وسبح فيه، فكتمه عن الإسكندر وكتم أمره إلى أن خرج، فلما نظر أرسطو إلى الخضر - عليه السلام - على أنه قد فاز من دونهم بذلك، فلزم خدمته إلى أن مات واستفاد من الخضر هو والإسكندر علوماً جمة". لقد تأثر الجيلي تأثراً مباشراً بابن عربي، وبعد أعوام طويلة ما عاد في الأمر سرّ، فإن المستشرق آسين بلاثيوس قد بدأ كشف الحقيقة الخاملة التي تعاورها الباحثون المستشرقون بعد ذلك وأشبعوها برهنة وإثباتاً، وهي أن دانتي تأثر بابن عربي أيضاً في معراجه، لا بالمعري، عبر "الفتوحات المكية"، وهو معراج كان من مقاصده عند ابن عربي أن ينكّل الروحانيُّ الأفلاطونيُّ بالعقلاني الأرسطي. ومع ذلك: ففي تلك القرون الماضية، وعلى أن الجيلي ودانتي كلاهما تأثرا بابن عربي، فإن الجيلي كان أشد رحمة وتسامحاً، فقد سقى أفلاطون من ماء الحياة، واختط له إقطاعية في الفردوس الأرضي، وأما دانتي فإنه جمع في سطرين من وصفه للجحيم بين صلاح الدين الأيوبي وأرسطو وسقراط وأفلاطون! يقول متحدثاً عن الجحيم: "ورأيت صلاح الدين وحيداً، وحينما رفعت عينيّ إلى أعلى قليلاً، رأيت أستاذ الذين يعلّمون يجلس بين أسرّة فلسفية، وكلهم ينظر إليه، ويمجّده الجميع: وهنا رأيت سقراط وأفلاطون، اللذين وقفا أقرب إليه من الآخرين، وديموقريطس، الذي يجعل العالم وليدَ الصُّدفة". يقول دانتي: "لم يكن بكاؤهم يُسمع، ولكن كانت تنهدات جعلت الهواء الأبدي يرتعد منها، وصدر هذا عن ألم بغير تعذيب". وذلك العذاب "نالته حشود كثيرة وكبيرة من الأطفال والنساء والأطفال والكبار". ويقول أستاذه الطيب: "إنك لا تسأل أية أرواح هذه التي تراها، الآن أريد أن تعرف وقبل أن توغل في المسير، إنهم لم يأثموا، وإذا كانت لهم فضائل، فهي لا تكفي، لأنهم لم ينالوا التعميد، الذي هو باب العقيدة التي تؤمن بها، وإذا كانوا قد عاشوا قبل المسيحية فإنهم لم يعبدوا الله كما ينبغي: وأنا نفسي واحد من هؤلاء. بمثل هذه العيوب أصبحنا من الهالكين، لا بخطيئة أخرى، وعذابنا الوحيد أن نعيش في شوق لا يحدوه أمل". *باحث وروائي
مشاركة :