سارتر.. الوجودية سقطت من ذاكرة الفلسفة

  • 9/2/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة:«الخليج» جان بول سارتر، ما الذي يستدعيه هذا الاسم من صور؟ ربما تستدعي صورة ذلك الرجل المنخرط في علاقات عاطفية مع بعض أوفر النساء جمالاً وشباباً، ثم يجعل من تلك العلاقات موضوعاً لتحليلات، لها بدورها صلة بالثقافة، كما أن خطاباته إلى رفيقة عمره سيمون دي بوفوار، تتضمن مثل هذه التحليلات.تلك صورة من صور المثقف، أما البقية الباقية فهي للمثقف الملتزم الذي يخاطب جموعاً من طلبة الجامعات في مسيرات سياسية، وهناك صورة أخرى للرجل الذي يدخن سيجاراً كوبياً بصحبة فيدل كاسترو، في مسكنه، وهناك أيضاً صورة الكاتب المسرحي والروائي الذي تبدو رسالته الأساسية كأنها إقناع الناس بأن الحياة لا معنى لها، وأن «الجحيم هم الآخرون».هذه الصورة دفعت كاثرين موريس للسؤال في كتاب عنوانه «جان بول سارتر»، ترجمه أحمد علي بدوي إلى العربية، وصدر عن دار آفاق للنشر، فهي تقول: بكل ما في هذه الصورة العامة لسارتر- أو في مجموع صوره تلك- من قوة تأثير، فإنها خليقة بأن تثير في أذهان أفراد الدوائر الأكاديمية اليوم ضربين من الشكوك متعارضين، فيما بينهما، إلى حد ما، من ناحية هل يجدر حقا أن ينظر إليه جدياً على أنه فيلسوف؟ ومن ناحية أخرى أليست أفكاره الفلسفية قد تقادمت، بحيث لم يعد ممكناً تداركها؟ أليست هي سقط المتاع على أقصاه، وقد تراكم بعضه فوق بعض، في ذلك المناخ الثقافي المحموم لباريس ما بعد الحرب؟ تعترف كاثرين موريس بأن في أسلوب سارتر في الكتابة ملامح عدة تستثير اتهامات بالسفسطة والتعتيم، ورغم أن كتابات سارتر الفلسفية تحوي الكثير من فقرات أدبية أخاذة هي متعة للقراء، فإن هذه الفقرات تشق طريقها بواسطة لغة مفرداتها مفزعة، وغير مألوفة: «الوجود في ذاته»، في مواجهة «الوجود لذاته»، و«التعالي» في مواجهة «الحقيقة الواقعة»، و«العدميات». في بعض الحالات يمكن الخروج بتعريف موجز - كما ترى المؤلفة - وفي حالات أخرى تتراكم طبقات متعددة، حتى لا يعود ممكناً إلا التطلع إلى بزوغ المعنى من خلال هذه الطبقات المتراكمة، أما كيفية استخدام سارتر لتعبيرات من قبيل «الواقع الإنساني» فإنها خليقة بأن تجعل الذين تلقوا تأهيلاً حسناً يتميزون غيظاً، إن له نزعة للتعبير بالمفارقات: «الإنسان هو الكائن الذي هو ما ليس هو، والذي ليس هو ما هو»، وإلى وصف الأشياء التي ليست سلبية في جوهرها، بلغة سلبية الوقع كمثال: «هذا الاغتراب عن إمكاناتي نتيجة لفعل الآخر»، وإلى الإدلاء بتصريحات تكاد تقارب الجنون كمثال: «الآخر يسرق عالمي»، وإلى المغالاة كمثال: «الإنسان حر دائماً أبداً، وإلا فإنه ليس حراً على الإطلاق»، وفي مسعى سارتر لإيصال انطباع ما «كثيراً ما يجرب لتحقيق مسعاه ذاك ثلاثة أو أربعة من الطرق التي لا تتماثل بالضرورة عبارات الواحدة منها، بتلك التي في الأخريات، بل وقد تتناقض طرق التعبير هذه فيما بينها». وتناقش المؤلفة العديد من المقولات التي سادت في الفترة الأخيرة بخصوص سارتر والفلسفة الوجودية، منها أن «سارتر ينتمي إلى الماضي»، وأخيراً الوجودية أكل الدهر عليها وشرب، وهذا ما يثيره مفكرو «ما بعد البنائية»، و«ما بعد الحداثة» داخل بعض أقسام الفلسفة في الجامعات، وكذلك في دوائر النقد الأدبي، إذ يتخذون من عمل فلاسفة أحدث من سارتر، شأن ميشيل فوكو وجاك دريدا- دعامة لحكمهم هذا.كثيراً ما ينظر إلى سارتر على أنه فيلسوف عالم انقضى، على أنه مسخ خلقته الحداثة، دوى صوته وسط ما شهده القرن العشرون من أهوال وألوان من الاغتراب، لكنه الآن قلما يلحظ بين الموجات الصوتية المنبعثة مما هو معاصر لنا من حالة ما بعد الحداثة.وكثيراً ما يرى هؤلاء المفكرون سارتر كفرد راديكالي، يتجاهل البعد الاجتماعي للواقع الإنساني، يرونه كمدافع عن أقصى مدى للحرية، يتجاهل ما على الحرية الإنسانية من قيود اقتصادية وسياسية وثقافية وبيولوجية وتاريخية، وكنصير لمفهوم للوعي بالذات، يتجاهل في آن معاً، كلاً من مفهوم فرويد ل«اللاوعي» ومفهوم ماركس ل«الوعي الزائف»، وحتى إن كانت لغة سارتر تغري أحياناً بتفسيرات من هذا القبيل. حتى إن كانت بعض هذه التفسيرات تشير إلى ثغرات في فكر سارتر، على الأقل في أعماله المبكرة، فإن هذه الاتهامات جميعها تبالغ - إلى أقصى حد- في تبسيط مفهوم سارتر للواقع الإنساني، إضافة إلى أن هذه الاتهامات تنطوي على مخالفة حقائق التاريخ، لأنه من دون سارتر ما أمكن أن يوجد فوكو، ولا دريدا، فضلاً عن ازدواجية المعاير، لأنه كذلك يوجد في عمل فوكو - مثلما في عمل دريدا - ثغرات تعيب هذا العمل الفلسفي.

مشاركة :