يؤثر استرجاع التاريخ والماضي لأيام العيد في القنفذة على نحو معين في موقف أهالي المحافظة للحنين إلى الماضي والشوق لأيام زمان، ولو في الخيال، بعد أن فرض الإيقاع المتسارع للعصر نفسه اليوم فتغيرت الملامح وبهت الماضي، إلاّ أن بانوراما ذلك الزمن تظهر مع حلول العيد في القنفذة، فها هم الأهالي يسترجعون ساعات السلا والفرح المغلفة ببساطة تلك الأزمان الجميلة. «المدينة» ترصد شيئًا من أحداثها بمشاعر أدباء المحافظة ومثقفيها تمكن الآخرين من التفاعل معها واسترجاع عبقها بعد أن سكنت مخيلة أبناء القنفذة، فيروي الأديب الدكتور حمزة بن أحمد الشريف بعضًا من مظاهر العيد في القنفذة في ماضيها الجميل. فيبدأ في استعادة ذكريات ماضي العيد قديمًا من الليالي الأخيرة لشهر رمضان فيقول: كان لأهالي القنفذة اهتمام كبير في السابق بزكاة الفطر فتكون على قائمة جدولهم في التجهيزات لاحتفالات عيد الفطر، يلي ذلك البدء في خياطة وتطريز الثياب للرجال والصغار، وتجتهد الأسر بحسب قدراتها المادية في إتمام صنع أربعة ثياب لكي يتم لبسها خلال أيام العيد الأربعة، كما أن الرجال يعمدون إلى تفصيل الثياب «المشقرة» التي تمتاز بوجود فتحات عريضة من الأسفل كي تجعل حركتهم سلسة أثناء تأدية الرقصات الشعبية في المساء، فيما يركز الصغار في ثيابهم على اللون الأبيض، أو بقية الألوان كي تعطيهم طابعًا مميزًا في أيام العيد. وعن مأكولات العيد في القنفذة سابقًا يقول الشريف: يعد الأهالي في العيد أكلات شعبية خاصة، كالهريس والشعيرية والعصيد، إضافة إلى اللقيمات التي لا تقدم إلاّ في وجبات الإفطار، ويعود السبب في ذلك إلى أن العادات كانت تقتضي تخصيص فترة النهار للزيارة، أمّا المساء فللعب والرقصات الشعبية، كما يسترجع الدكتور الشريف عادة اهتمام أهل القنفذة بـ (العيدية) التي كانوا يسمونها (البخشيش) وهي نقود كانت توزع على الصغار صباح العيد. ويقول: «أخذ اسمها من اللهجة المصرية، وكانت تتراوح بين قرشين وأربعة قروش، إلاّ أن هذه العادة اندثرت في الوقت الحاضر ويقتصر تقديمها بين الأقارب فقط. فرحة النساء ويصف سعيد باسندوة وهو من أعيان مدينة القنفذة فرحة النساء قديمًا بالعيد فيقول: فكانت هناك ألعاب خاصة للنساء وأخرى للرجال خلال العيد، إذ تلعب النساء الشبربة، وهي المراجيح، وكانت تدار من قبل النساء في فترة العصر في بعض بيوت القنفذة، أمّا الرجال فيلعبـون بـ«المدريهة» وهي شبيهة بالمراجيح، وتدار من قبل مجموعة من الرجال. كما يسترجع باسندوة طقوس العيد التي اشتهرت مدينة القنفذة قديمًا خلال أيام العيد بعقد سلسلة من «ومن أهمها أن ليالي العيد كانت تستغل لعقد (مجالس للصلح) بين سكانها المتخاصمين، فكانوا يتحاكمون على يد عدد من أعيان القنفذة فيبدأ كل طرف بذكر ما لديه ثم يقرر الحكام ما يرونه مناسبًا لإنهاء الخلاف وإلزام الطرف المخطىء بالاعتذار للطرف الآخر، وعادة ما ينتهي مجلس الصلح بالوفاق، والتراضي بين الأطراف المتخاصمة. زيارات المعايدة وفيما يتعلق بزيارات المعايدة يقول مدني بن أحمد الشريف: كانت الزيارات توزع على أيام العيد لمعايدة الجيران بحسب الأحياء، بحيث يخصص في كل حي بيتًا معينًا يتم الاجتماع فيه في ليلة من ليالي العيد، ويليه بيت آخر، وفي كل عام يتغير المنزل بحسب ظروف الأهالي واستعدادهم، وفي المساء يستعد المسنون والشبان والصغار لالاحتفاء بالعيد فترقب وجوه تحمل ملامح الزمن الجميل قد اصطفّت قلوبها قبل أجسادها لتؤدي على منوال واحد وبقلوب متآلفة رقصات شعبية جميلة من أشهرها رقصة المزمار التي اشتهرت بها القنفذة سابقًا وحاضرًا، إلى جانب الرقصات الشعبية الأخرى كالزيفة والربخة والعرضة. من جهته يتذكر عبدالله هبيلي فرحة الأهالي بالعيد قديمًا وقد ارتدوا الملابس الزاهية، وتوشّحوا بالسيوف للمشاركة في ألعاب العيد المشهورة. كما يشير إلى العادات الجميلة التي كانت لدى سيدات المجتمع في القنفذة فكن يحتفلن بالعيد داخل البيوت بأسلوبهن وطريقتهن الخاصة عن طريق إقامة الألعاب الخفيفة المسلية بين الأطفال، وعقد مسابقات منوعة بين أفراد الأسرة الواحدة وترديد الأناشيد القديمة المتوارثة عندهن فكن يقمن بتحفيظها للأطفال لإنشادها في ليالي العيد. كما أن المرأة في القنفذة كانت تحرص في أيام العيد على لبس أنواع المشغولات الذهبية المعروفة عند أهل القنفذة، ومنها ما يطلق عليه مثل الرشرش، والبناجر، والخواتم، والحزام الذي يفرض نفسه بقوة في المجتمع النسائي (الجو النسائي) فضلاً عن اقتنائهن للملابس الشعبية ذات الألوان الزاهية، وإطلاق البخور الفاخر من داخل أروقة المنازل ابتهاجًا بالعيد، وهذا الشكل من الاحتفالات كانت تشتهر به مدينة القنفذة خاصة الأسر الأصلية التي تشكل منبع أهالي المدينة. ويتفق معه عبدالرحمن حلواني الذي يسترجع ماضي الطفولة الجميل في أيام العيد فيقول إن فرحة الطفولة وارتداء الملابس الجديدة كانت تجسد مشهد البطولة في أيام العيد فكل طفل كان بمثابة عريس المناسبة، فلهم ومن أجلهم تتم الاستعدادات، وتقام الاحتفالات رغم بساطتها فمازالت أحياء القنفذة القديمة تنبض بتلك المشاهد الجميلة المزينة بمظاهر العيد، ونصب الألعاب القديمة والتراثية التي باتت اليوم تقاوم، تسارع العصر وملامحه الجديدة. المزيد من الصور :
مشاركة :