سمير عطا الله: مدن الصيف: مقعد في حديقة

  • 8/3/2014
  • 00:00
  • 18
  • 0
  • 0
news-picture

قمت وسافرت. طبعا حلمت بالسفر قبل ذلك. في نحو السابعة عشرة اشتريت أول حقيبة وتركتها تنتظر معي موعدا لا نعرفه. وغالبا ما كنت أذهب إلى شرفة مطار بيروت، التي كانت يومها نزهة للسفر الافتراضي. ولم يكن يُخيَّل إليّ إطلاقا أنني سوف أمضي معظم العمر متنقلا مترحلا لا أميِّز إذا كنت غريبا في بلدي أو في بلدان الآخرين. كان السفر حلما فأصبح عادة ومهنة، وتلك الأمكنة التي أكتب منها. كثُرت الأمكنة حتى صار لبنان نفسه افتراضيا وصارت الرجعة هي الحلم، وصارت بيروت هي ميناء العودة، كما سمى الرحالة والحالمون «البندقية» في عصور الجمال والازدهار. هل تنقّلتَ في كل هذه المدن من أجل أن تقول في نهاية الأمر أن ليس أجمل من بيروت؟ لا. أريد أن أقول إنها موطني ليس بالولادة بل بالخيار. موطني رغم بؤسها الوطني وانتحارها القومي ونكران أهلها وطمع الغرباء بها. وموطن طفولتي. وعندما أسأل نفسي هل أنا من بيروت أم من لبنان، أتساءل: ما هو لبنان من دون هذه الرحباء الجميلة على ضفاف المتوسط؟ كل قطعة أخرى من لبنان لها هدية ضيقة وصورة ضيقة وجبل ضيق وبحر ضيق، إلا هذا الاختراع المعماري الروماني الذي جعل منها ميناء القادمين، ما إن يصله المُبحرون حتى يذوبوا فيه، ويستوطنوا حاراتها القديمة وشوارعها الضيقة. يقول المؤرخ بيل برايسون: «كنت غريبا قبل أن أكون مسافرا». يقصد بالغربة اللاانتماء، أو الشعور باللاجاذبية وكأنك خُلقت للعوم في الفضاء الخالي وليس لقلب الصراع ومركز المواجهة. يتحول التيه بعد قليل إلى يوميات مألوفة. قبل أربعين عاما قال لي قريب حبيب من أميركا: «لست أعرف على أي عنوان أكتب إليك». وقبل أيام قال لي ابني: «لا أعرف على أي رقم أتصل بك». وأشعرني ذلك بالألم. يجب أن أشرح لنفسي، قبل أن أفسر له، أن السفر صار جزءا من المهنة ونوعا من الحياة. هل أنا نادم؟ لا. بطريقة ما، على نحو ما، صَنع السفر الكثير من شخصيتي ومن عملي. لم أحلم بالآفاق، بل عبرتها. وفي مثل هذه المهنة ليس سيئا على الإطلاق أن تكون العدَّة كتابا وحقيبة. والأول أجمل وأعمق وأبقى. فإنك تترك في المدن والقطارات والمرافئ والحدائق أناسا يتحولون في الذاكرة إلى ظلال ممحوة، تترك ذكريات حزينة وتجارب جميلة وأخطاء وهفوات وندما وهباء، أما هذا، فرفيق الدرب ومصباحها كما في الفتوَّة كما في الربيع، كما تحت العريشة التي تتساقط أوراقها من هب الفصول. لكنني لن أكتب هنا عن التعب. «مدن الصيف» التي أعنيها هي مدن الماضي الغنية بالمشاهد والصور وشَغف المعرفة وبساطة العيش وسهولة التعرُّف إلى الغرباء وولادة الصداقات على مقعد قطار، أو الابتسامة على مقعد في حديقة على الدانوب. إلى اللقاء..

مشاركة :