يمكن أن يظل المقهى مجرد مقهى آخر، إلى أن يقرِّر «الإقامة» فيه شاعر أو روائي أو أديب. عندها يصبح اسم علم. أو عنوان مرحلة كاملة، كما أصبح «الدوماغو» عنوان مرحلة الوجودية الفرنسية بسبب جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وسائر الرفاق. أو يصبح عنوان جيل سابق مثل «الفيشاوي» بسبب دوام نجيب محفوظ، وليس بسبب نوعية القهوة التي تقدَّم فيه. أو المقاعد. أو السجائر. يتحول المقهى إلى جزء من آثار المدينة التي لم تتساقط أحجارها ولم يعفّر ترابها. باريس مدينة المقاهي. تاريخ هذه من تاريخ تلك. أين كان يجلس إرنست همنغواي؟ وأين كان يجلس جبران خليل جبران؟ وفي بيروت كان هناك مقهى فقير على البحر يدعى «قهوة الحاج داود» ولا يأتيه سوى صيادي السمك. ثم عثر عليه شاعر فقير من العراق يدعى أحمد الصافي النجفي فصار يأتي إليه ليكتب الشعر فوق طاولاته المخلَّعة. وما لبث أن تبعه شعراء لبنان. إلاَّ أن هؤلاء كانوا يخفون فقرهم ويسيرون تيّاهين ويكتبون قصائد الغزل لحبيبة لا حبيب لها. كتبت هذه الزاوية في مقهى دي تشيادو، لشبونة. يقال إنه أهم وأقدم المقاهي الأدبية في البرتغال. ويشهد على ذلك تمثال شاعرها، فرناندو بيساوا. ولم أخجل عندما رويت لجنابك، قبل سنوات، أنني اكتشفت بيساوا بمحض الصدفة عندما كنت أجول بين باعة الكتب العتيقة على السين. لفتني غلاف الكتاب وعليه صورة هذا الرجل القصير بالقبعة كأنه توأم الرسام تولوز لوتريك. دفعت بضعة فرنكات ثمنا لكنز شعري صار مثل خد حنون. عندما قرأت لاحقا إحدى ترجمات بيساوا إلى العربية، قلت في نفسي لو عرف البرتغالي ماذا سيحدث له على أيدي متحدري أسلافه العرب، لما سمح بنشر شعره حتى بعد موته، كما أوصى. الشعر لا يُترجم، كان يصر نزار قباني ويخاف أن تتحوَّل قصائده، بين يدي مترجم فرنسي أو إيطالي، إلى شيء آخر. أو شاعر آخر. لذلك، تحرص دور النشر الأميركية على وضع النص الأصلي قبالة النص المُترجم. هكذا، تستطيع أن تُدرك ماذا يريد بابلو نيرودا أن ينشد من دون أن تفقد إيقاعه. النص هنا والإيقاع في الصفحة المقابلة. والشعر إيقاع أولا، لكن ليس أخيرا. حتى الحديث منه. لا شعر بلا نغم، بلا مألوفية. الرتابة ليست شعرا. العادي ليس شعرا. المكرر ليس شعرا. المقلَّد ليس شعرا. أكرر هنا ما قالته تلك العبقرية الخالدة أم كلثوم لجورج جرداق: عندنا مائة كاتب وشاعر واحد. اذهب وانصرف إلى الشعر. لكنَّه لم يفعل. هل هو نادم اليوم؟ كان شاعر «هذه ليلتي» يمضي وقته في «مقهى روكسي» على ساحة البرج. وكان هناك أيضا الأخطل الصغير وكتّاب ونقّاد وفنانون وصحافيون. ثم فجأة انتقلت الناس إلى شارع الحمراء، وأغلقت مقاهي البرج وفرغت مقاعدها. إلى اللقاء..
مشاركة :