على ورق الفل دلعني ... ما احملش الذل دة يعني... أنا لا حيلتي ولا معايا... إلا الغوايش اللي معايا... ما جولتلك يلا نـبـيـعهم واسهر وياك ودلعني... هكذا تشدو بسلطنة ودلع كعشرينية تغني لحبيبها رغم تجاوزها الثمانين، تخرج على المسرح في شموخ بفستانها المبهج وبكامل زينتها، كأن الغناء يعطيها مزيداً من الحياة والقوة، تنسى آلام جسدها الضعيف لتنطلق راقصة ساحرةً المئات من عشاقها. الست جمالات شيحة، رائدة فن الموال والغناء الشعبي. في أحد الشوارع الضيقة بحي امبابة الشعبي -جنوب الجيزة -، يقبع منزل الست جمالات، بين الزحام والناس التي التحمت بهم طوال عمرها، منزل بسيط كغالبية بيوت المصريين، بمجرد أن تقولوا اسمها يهرع عامل المقهى أو المكوجي لمساعدتكم للوصول إلى شقتها. الجميع في الحي يحبها، بمجرد الصعود للدرج لتعبر داخل الشقة الصغيرة تُدهش مما تحمله جدرانها من صور وشهادات تقدير وجوائز عربية وأجنبية لسيدة أخلصت للفن.فلاحة شرقاوية من المحيط للخليج "أنا شرقاوية يا ولا... سمرا وعافية يا ولا ". تبدأ الحكاية في أحد بيوت الريف بقرية (كوم حلين) في محافظة الشرقية عام 1933، بميلاد طفلة صغيرة تلهو وسط عائلة تعشق الغناء. حققت نجاحاً ذائع الصيت، مكًنها من الوصول لمعظم شعوب العالم. تحكي الست جمالات: "كان أبي يدلل والدتي بالغناء وكانت هي أيضاً ترد عليه بالأغاني الشعبية المنتشرة بين الفلاحين أثناء وجودها في المطبخ أو في المساء، ومن هنا عشقت الغناء وأصبحت أردد ما يقولا نه ليكتشفت موهبتي وعمري 12 عاماً". تقول: "حفظت المواويل التي كان يرددها أبي عن ظهر قلب، فكان صاحب صوت جميل، عندما كان يقول الموال كان يهز البيت علينا، لم أتعلم القراءة والكتابة، ولكن اعتمدت على ذاكرتي في الحفظ والارتجال". وتتوقف الست جمالات عن الحديث، لتغني أول موال حفّظها إياه والدها لتقوله في أحد الموالد في الشرقية: يا بو وجه زي القمر والنسج كلمني ... فلقتني من سكاتك يا حلو رد كلمني... دة النوم علشان جمالك بقى له شهرين مآلمني... وتضيف: "بدأت احتراف الغناء وعمري 17 سنة في الأفراح بالقرى المجاورة ومحافظتي قبلي وبحري، ثم إحياء الموالد الدينية مثل مولد شيخ العرب السيد بطنطا، والشيخ ابراهيم الدسوقي بكفر الشيخ، ومولد الشيخ أبو مسلم بالشرقية، وكان أول أجر تقاضيته 60 قرشاً". وعن دور الأب في حياتها تقول: "أبويا كان سند حقيقي، بيشجعني، كان شايفني بنت بمية راجل، مسؤولة عن البيت ومصاريفه، وكان راجل سميع وفاهم يعني إيه مغنى، خصوصاً أننا فلاحين وفكرة غناء البنات لم تكن مقبولة، ولكنه كان يثق في، ويقول لأقاربنا بنتي صوتها حلو ويرد الروح ".أقوال جاهزة شاركغرد"حلوة يا بت يا جمالات حتى لو عندك 80 سنة "، تقول بضحكة بريئة بعد انتهائها من النظر في المرآة شاركغرد"حاسة إني اتخلدت! جيل الشباب يسمعني معناه إني هعيش لسنين وسنين جاية وأن عمري الفني ما ضاعش على الفاضي" شاركغردحزينة على حال الفن، وصل لانحطاط شديد، لا أحد يهتم بالصوت والكلمة، الكل يحب الهرج والمرج والهيصةالوالد الروحي وتتابع جمالات: "جلت العالم مع الأستاذ زكريا الحجاوي، أحد رواد الفن الشعبي المصري، هو والدي الروحي في الفن، فنان محترم وجاد. استمع لصوتي بالصدفة عندما كنت في زيارة لأحد أقاربي بالقاهرة، وكانوا يعملون معه في مسرح البالون، وقالوا له إن صوتي حلو، وطلب مني الغناء أمامه على المسرح واندهش بصوتي جداً، وانصرفت، ولم أعلم بأن هذا الرجل سوف يفتح أبواب الشهرة بعد ذلك ليكتشفني". تضيف: "سافرت إلى الشرقية، ولكنه لم ينس صوتي وحضر بعدها بعدة أسابيع مصاحباً معه الست خضرة مع خضر، مطربة شعبية، كانت استاذة على المسرح، صوتها قوي ومنطلق وحر، وأقنع والدتي بسفري للغناء بمصر". زكريا الحجاوى -يمين الصورة-مع جمالات شيحه تكمل: "جئت للقاهرة، وقام بتوظيفي في مسرح المقطم بالقلعة التابع للثقافة الجماهيرية، ثم أسسنا فرقة الفلاحين للغناء الشعبي عام 1961، وقدمت معه للتليفزيون عدة أوبريتات مثل خيال المآتة، سعد اليتيم، بالإضافة للأغاني الشعبية والتراثية والمواويل". تتوقف الست جمالات عن الحديث لتغني إحدى أغاني زكريا الحجاوي عن ثورة يوليو: بسم الله الرحمن الرحيم... وهنبتدي الليلة... هنقول ياليل... بلدنا يا حلوة يا ام الكل يا محمية... إنتي ياعيني ما تبكي بعد اليوم دة بقينا في حرية... كل ربابة وكل غابة تغني مكاسب ثورتنا... ثورتنا... عبد الناصر... ياحلو يا اسمر غرامك في الفؤاد شبابيك... بمجرد الغناء عن الثورة وعبد الناصر لمعت عيناها. وبسؤالها تحبين عبد الناصر؟ تقول: "الحب قليل عليه، تصمت ثم تغني له مطلع موال "يا حلو يا أسمر غرامك في الفؤاد شبابيك "... بحماس شديد تُكمل: "عبد الناصر كان شهم وجدع، رئيس الغلابة، ابن بلد، الرئيس الوحيد اللي كان بيدعو للوحدة العربية، ويكره الصهاينة، واحنا لازم نحبه عشان هو ضد ولاد "الكلب" دول".الغناء ليس إغراء تصمت قليلاً وتبحث في صورها لتعلو وجهها ابتسامة لعثورها على صورة تجمعها بالحجاوي. "صوتنا وصل بفرقة الفلاحين لكل العالم، اليابان، أمريكا، ألمانيا، فرنسا، لندن، والعالم العربي، من الأردن، لبنان، تونس، المغرب والجزائر وغيرها. كنا سفراء لمصر، كنت فخورة لكوني فلاحة شرقاوية تغني على أكبر المسارح، كان الجمهور يصفق طويلاً للفرقة ورغم عدم معرفته بالعربية الا إنه كان يرقص على النغم والإيقاع. حفرنا اسم مصر في قلوب الملايين، كنت أحمل حضارة 7 آلاف سنة للعالم كله". وتكمل: "تعلمت من زكريا الحجاوي أدب الفن، واحترام المسرح، ممنوع الهزار، الفنانة التي تقف على المسرح يجب أن تحترم الجمهور ونفسها، الغناء ليس إغراء ورقصاً غير لائق، ولكن التزام". راسيني وفتحي سلامة تبحث في صورها من جديد، لتعثر على صورة تجمعها بفتحي سلامة، عازف بيانو مصري ومؤسس فرقة شرقيات وحاصل على جائزة الغرامي عام 2004. تقول "نجحنا في تقديم الغناء الشعبي بمزج بين الموسيقى الشرقي بالغربي، ولاقى ذلك إعجاب الجماهير في معظم دول أوروبا، وسافرت مع فرقته إلى فرنسا، ألمانيا، بولندا، سويسرا والنمسا". وتضيف: "راسيني من أشهر أغاني "شرقيات"، كلماتها صعبة وقاسية، عن الفراق والموت، ويطلبها الجمهور خصوصاً الشباب في حفلاتي. أبكي عند غنائها، لأنها تذكرني بابني وحيد الذي مات شاباً صغيراً، وزوجي وأخواتي وأبي الله يرحمهم".أكمل القراءة إدلع يا حلو يا ابو رمش مكحلو أثناء لقائنا مع الست جمالات شيحة، كانت حريصة جداً بين الحين والآخر أن تنظر في مرآتها الصغيرة، تضبط طرحتها بعناية فائقة، تصلح الكحل. رغم كبر سنها إلا أنها تملك رغبة شديدة في الحياة ونشر البهجة والحب، تتابع أناقتها كما لو كانت فتاة عشرينية تتزين للقاء حبيبها. "حلوة يا بت يا جمالات حتى لو عندك 80 سنة "، تقول بضحكة بريئة بعد انتهائها من النظر في المرآة، رغم تجاعيد الزمن وأوجاع الماضي المحفورة في قلبها. "طول عمري عايقة وبحب أدلع نفسي وأتزين، ولازم الفساتين تكون مبهجة ومنورة، أنا مش طالعة أنكد على الناس، طالعة أغني على المسرح وفي الأفراح عشان يتبسطوا ويرقصوا، كنت أتولى شراء القماش المزكرش أو السادة للفساتين، وكنت أهوى تطريزها، وأشتري الغوايش والخواتم المناسبة لها".العوض على الله في الفن "دلوقتي بيعروا نفسهم عشان يتسمعوا أكتر، أما بشوف الأغاني بالتليفزيون لستات عريانة، يطلقوا على أنفسهم مطربات؟! بكون في ربع توبي من الكسوف، حزينة على حال الفن، وصل لانحطاط شديد، لا أحد يهتم الآن بالصوت والكلمة، سواء الجمهور أو الفنان، الكل يحب "الهرج والمرج" والرقص والهيصة، العوض على الله في الفن". تضيف: "لم يعد هناك سميعة زي زمان". وتتساءل : "وإيه كمان مصيبة أغاني المهرجانات؟ مين قال أن الشعبي خبط وطرقعة كده وهز وسط كدة!".يعجبنى صوت أحمد سعد وشيرين تقول جمالات: "حزينة لأنني لا أرى امتداد لأصوات نسائية تغني الغناء الشعبي وصنعت بصمة مميزة، ليكونوا امتداداً مثلاً لفاطمة سرحان وروح الفؤاد وخضرة محمد خضر وبدرية السيد. ولكن أسمع أصواتاً رجالية جيدة مثل أحمد سعد، الذي زارني في المنزل مع عائلته، ومحمود الليثي، وغيرهما". وبحب إسمع "شيرين عبد الوهاب" شاطرة وصوتها مصري أصيل وعجبتي اغنيتها " على مين الملامة " فيها موال وشعبي حلو.ومن يُسلطن جمالات شيحة؟ "بعشق الست أم كلثوم، ووردة بتدبحني بأغنية "لو الأيام بتتكلم"، ونجاة الصغيرة، التي من حبي لها أطلقت اسمها على ابنتي". بشغف شديد وحب تعود للغناء مرة أخرى أمامنا تحية لكوكب الشرق "هو صحيح الهوى غلاب" بدون موسيقى ولا فرقة ولا أروع... ثم تتذكر موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لتغني له " قولي عملك ايه قلبي ... قلبي اللي انت ناسيه قولي"... ولكن على طريقة مواويل جمالات شيحة.مواصفات المطربة الشعبية؟ "الإحساس أهم شيء، يكون في دمها الغناء، صوت إمكانياته واسعة، يقدر يطلع وينزل بين الطبقات الجواب والقرار، ويقول العُرب صح، اللي بيغني شعبي يقدر يغني أي لون، ويكون مميز فيه". وتوضح أن غناء الموال أكثر صعوبة ويحتاج إلى موهبة وقوة صوت، مشيرةً إلى أنها فخورة بتعليمها لجيل من المطربات الشعبيات على رأسهم فاطمة عيد، فاطمة سرحان، روح الفؤاد .دويتو مع علي الحجار نشر المطرب الكبير علي الحجار صورة جمعته بالفنانة جمالات شيحة قبل أسابيع معلناً عن دويتو معها في الألبوم الجديد 2017، بل صرح في أحد حواراته الصحفية أن هذه الاغنية سوف تصل للعالمية لوجود المطربة الكبيرة فيها. الأغنية الدويتو تحمل اسم "الهوى يبلي" من ألبوم "ما تاخدي بالك" المنتظر إصداره خلال أيام. تقول عن تعاونها مع الحجار: علي مطرب كبير، وصوت لن يتكرر، يمتلك فرقة موسيقية في حنجرته، وسعيدة بهذا التعاون، أتوقع نجاح الدويتو، وهو كان مسروراً بصوتي جداً". لم يكن دويتو علي الحجار التجربة الأولى التى خاضتها شيحة، بل سبقه دويتو مع المطرب محمد محيي حقق نجاحاً كبيراً في ألبوم "مظلوم" إنتاج عام 2008.على ورق الفل دلعني "تزوجت صغيرة، الحاج زكي زكريا، كان صول في البوليس، رجل محترم، هي الواحدة عايزة دلع أكتر من أنه يكون في قلبه رحمة وحنين، وبيخاف عليها، وإنه يفضل يحبني لحد مماته، كفاية أما أرجع من حفلة أو سفر يقولي إنتِ بتتعبي يا جمالات بس كملي ربنا معاكي"، تحكي الست جمالات عن رفيق العمر والزوج والحب في حياتها، كانت تتحدث بعيون تداعبها الدموع، على الحبيب الغائب.هوس الشباب بجمالات شيحة وعن إقبال الشباب العشريني على حفلاتها، تقول بعد فترة صمت بفخر وحماس: "حاسة إني اتخلدت! أما جيل الشباب يسمعني معناه إني هعيش لسنين وسنين جاية، وأن عمري الفني ما ضاعش على الفاضي، أما بشوف البنات الصغيرين حافظين المواويل وبيرددوها في حفلاتي، معناه إني نجحت في تقديم رسالتي". "الغناء هو اللي بيخليني أعيش هو ملاذي في الفرح والحزن، كل ماكنت بحزن على فراق الأحباب، أغني أكثر، كأنني أتنفس الغناء وسعيدة لأنني مع كبر سني لسا بغني ولسا في جمهور بيحضر حفلاتي"، هكذا تصف عشقها للفن . اختتمت جمالات شيحة حديثها لرصيف 22 بنداء لوزير الثقافة حلمي النمنم والفنان هاني شاكر نقيب الموسيقيين: "راعوا ربنا في الفنان اللي تعب لبلده وكان سفير مخلص لها في العالم". اقرأ أيضاًمحاولات عربية لإحياء ثقافة الجاز... مع القليل من نينا سيمون وأرمسترونغكوكوش، أسطورة إيران الغنائيةسيزين أكسو... أمّة تذوب في صوتهاناس الغيوان المغربية أو "رولينغ ستونز أفريقيا" كما سمّاهم مارتن سكورسيزي كلمات مفتاحية جمالات شيحة غناء شعبي موال التعليقات
مشاركة :