لطفي السيد.. عاشق يشم رسائل ميّ قبل قراءتها

  • 9/7/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

في حياة مي زيادة رجال عديدون، رأى كل واحد منهم فيها ما اشتهاه، حتى ولو تعارض ذلك مع خياراتها الحياتية ورغباتها. لكنهم ساهموا كلهم في صناعة ذاكرة مشتركة لم تتح لغيرها. أحمد لطفي السيد واحد من هؤلاء، كان مسكونًا بالأدب العربي ورجالاته ونسائه، بالخصوص الشعراء، على الرغم من عمله في المحاماة، التي كانت وسيلته في الحياة، إلاّ أنّ مهنة الصحافة ظلت شغله الشاغل أبدًا. فتولى رئاسة تحرير صـحيفة «الجريـدة» سـنوات عـدة، الأمر الذي كان سببًا جوهريًا في تعرفه على مي زيادة التي ستسحره، كما سحرت غيره. الحدث الأول لتعارفهما جاء بمحض الصدفة: كان لطفي السيد يصطاف في لبنان عام ١٩٩١. وبينمـا هـو يتنـاول عـشاءه في أحد فنادق بيروت الفاخرة، لاحظ بالقرب منه فتـاة تجلـس إلـى مائـدة مجـاورة، وهـي تتحـدث بالفرنـسية حـديثًا مهمًا ودقيقًا مـع أحد القناصل الفرنسيين. وكان حديثها كله دفاعا عن المرأة العربية التي كانت تعيش في دوامة الحداثة الصعبة والمفيدة والمتناقضة أيضًا. وتدافع عنها بعقل وبصيرة. فـسأل عنها صـديقه خليل سـركيس: مـن تكـون هـذه المتحمـسة للمـرأة الشرقية؟ فأجابـه: هي ماري زيادة، ابنة الـصحفي المعـروف إليـاس زخور زيادة، صـاحب جريـدة «المحروسـة»، وكانـت «المحروسـة» تـصدر في مصر. عندما أنهت حديثها مع القنصل، قدمها له وقتذاك، وبعد أن انتهت من حديثها مع القنصل قدمها إليه سركيس. من تلك اللحظة، تكونت صداقة متينة. فأهدت مي للطفي السيد روايتها المترجمة: «ابتـسامات ودمـوع»، ترجمتهـا إلـى العربيـة عــن اللغـة الألمانية. وهي قصة عاطفية تراجيدية تحمل الكثير من الدلالات الرمزية. هل كان الإهداء بريئًا بالخصوص بعدما أظهر لطفي السيد إعجابه الكبير بها؟ وبمقالاتها أيضًا، التي كان يتابعها لدرجة أنه انتقد بعضها لغويًا مما يبين اهتمامه الكبير بها، سؤال يطرح بناء على ما استتبع ذلك من وقائع. واصل قراءة مقالاتها: يوميات فتاة، كانت تنشرها في جريدة والدها «المحروسة» ويدققها لطفي السيد بالقلم الأخضر ويرسلها لها مبرزًا هفواتها ومزالقها وإعجابه بنبوغها المبكر. وتعمقت العلاقة بينهما إلى درجة أنه قال لها يومًا وهي المسيحية المشبعة بأفكار والديها الدينية: «لابد لك يا آنسة من تلاوة القرآنّ الكـريم، لكي تستفيدي من بلاغة معانيه، وفصاحة أسلوبه فقالت له مي: ليس عندي نسخة مـن القـرآن. فقـال لهـا: أنـا أهـدي إليـك نـسخة منـه. وبعـث إليهـا فـي اليـوم التـالي نـسخة مــن القــرآن الكـريم. وكان إعجابها الثقافي به كبيرًا. فقالت عن فضله وجهوده معها: «ابتـدأت أفهـم مـن لطفي الـسيد اتجـاه الأسـلوب العربـي، ومـا فـي القـرآن مـن روعـة جذابـة سـاعدتني علـى تنـسيق كتـابتي، ورقـي أسـلوبي». فكانت تستشيره في الكثير من شؤونها، وتسر إليه بمـا تخفيـه عـن غيره من الأصدقاء والأقرباء. تقربت منه كثيرًا وعرفت قيمة الشخص ونبله وحبه لها وإعجابه بها. فتبادل معها الكثير من الرسائل الجميلة التي تظهر جليًا إعجابه بها، بل وحبه لها.فـي يوليـو عـام ١٩٣١ سافر لطفـي الـسيد إلـى الإسـكندرية للاصـطياف، وكـان قبـل سـفره مثـابرًا علـى حـضور صـالونها كـل أسـبوع، فتشبه بشجاعتها النسوية وجمالها وذكائها. بعـث إليهـا رسـالة في ١٥ يوليو من نفس السنة، جاء فيها: «... إننــي أذكــرك دائمــًا كلما هبـت نـسمات البحـر، وقابلـت بينهــا وبــين لوافح القـاهرة، وكلمـا تجلـى علينـا البـدر يـضيء البـر والبحـر علـى الـسواء، ويمـلأ العيـون قـرة، والقلـوب رضـا، وكلمـا جلست علـى شـط البحـر أتعـشي وسـط أصحابي، كمـا كانـت حالي وقـت أن رأيتـك لأول مـرة، وسـمعت حـديثك وأعجبـت بـك. أذكـرك كلمـا خطر ببالي النظر إلى حال المـرأة الـشرقية ومـستقبلها وعلـى مـن نـستطيع أن نعتمـد فـي المـساعدة علـى انتقالهـا إلـى الأفـق الـذي نرجـوه. وكلمـا قـرأت مـن الـشعر ومـن النثــر أفكـارًا تناسـب أفكـارك أو تختلـف عنهــا... أذكرك في كل وقت، ولا أجـرؤ أن أكتـب إليـك إلا فـي ميعـاد الزيـارة، لكـي لا أضـطرك مكرهـة بتقاليـد الأدب أن تردي علـيّ بالكتابـة كلمـا كتبـت إليـك. على أنـي أعـرف أن كثيـرًا غيـري لهـم تراسـل قـد يـضيق وقتـك عـن العطـف علـيهم... فاعذري قلمًا حساسًا، غيورًا طماعًا يجري إلى ما يحب كالسيل المتدفق».لم تتأخر مي في الرد عليه بلغة شديدة الشفافية فيها الكثير من التقدير والاحترام والإعجاب والمحبة. فيرد عليها لطفي السيد مفضيًا عن مكامن قلبه من جديد تجاه مي التي ظلت تنظر له كمعلم وكأب نصوح: «لـست فـي حاجـة إلـى نـدائك مـن بعيـد، أو قريـب، فأنـت مـن نفـسي أقـرب مـن أن تناديـك جاءني كتابـك، فـشممته مليـًا، وقرأتـه هنيئًا مريئًا، وإني ممتنع نهائيًا عـن أن أشـرح».هذه المقتطفات من الرسائل تبين بشكل جلي، حب أحمد لطفي السيد الذي كان حقيقيًا، تخطى عتبات الإعجاب الثقافي العادي.

مشاركة :