د. خليل حسين رغم أن التجربة الكورية الشمالية النووية السادسة، خرجت عن السياق المألوف في تصاعد بؤرة الأزمة المستمرة منذ أكثر من عقد من الزمن، إلا أن القراءة الدقيقة للقضايا التي تحكم مواقف الأطراف الفاعلة فيها، تشير إلى سياقات مختلفة تماماً عما هو مثار في الإعلام. فالتجربة أتت في سياق تصعيدي بعد تراجعها في الفترة السابقة، والتي كادت أن تفتح نوافذ مهمة للتفاوض بين الجانبين الكوري الشمالي والأمريكي. إلا أن الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج اون، نفذ تهديداته في رسالتين مباشرتين إلى واشنطن وبكين في آن معاً، بهدف الضغط لفتح مسار تفاوضي، وليس لتصعيد عسكري ينتهي بمواجهة مباشرة.وعلى الرغم من المضي في سياسات حافة الهاوية في تلك القضايا دونها مخاطر كثيرة في العلاقات الدولية، إلا أن تجارب مماثلة رغم اختلاف ظروفها، حدثت سابقاً في العام 1961 في الأزمة الكوبية وانتهت إلى حلول عملية، رغم قسوة وقائعها، والتي كادت أن تشعل حرباً نووية بين واشنطن وموسكو آنذاك. اليوم اختارت بيونج يانج إطلاق تجربتها السادسة، في توقيت متزامن مع انعقاد قمة «بريكس» في الصين، (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) في مدينة شيامين في جنوب شرق الصين. حيث خطف الرئيس الكوري الشمالي بريق المؤتمر من الرئيس الصيني شي جين بينج حيث نُظم المؤتمر بأدق التفاصيل بهدف الظهور كقائد عالمي حكيم، ذلك مع اقتراب موعد مؤتمر الحزب الشيوعي، الحليف الرئيسي لنظام بيونج يانج ؛ والتي بدورها أبدت انزعاجها الشديد لهذه التجربة، والتي تخفي في ثناياها الضغط على بكين بهدف إجبار واشنطن على فتح قنوات تفاوضية كالتي جرت بداية العقد الحالي ولم تصل إلى نهايات محددة كما ترغبها بيونج يانج.إذ علقت الصين في مطلع العام استيراد الفحم من كوريا الشمالية الذي يشكل مورداً رئيسياً لعائدات كوريا الشمالية، كما وافقت على إقرار سبع مجموعات من العقوبات تبناها مجلس الأمن مؤخراً. إلا أن الصين التي تستورد 90 بالمئة من الصادرات الكورية الشمالية تبقى هدفاً للرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يضغط على بكين لمضاعفة الضغوط على بيونج يانج، والذي هدد في أكثر من مناسبة بتعليق التبادل التجاري مع الدول التي تجري تبادلات تجارية مع بيونج يانج. في وقت تسعى هذه الأخيرة، إلى إثبات أن أي عقوبات جديدة ستؤدي إلى نفس النتيجة، أي المزيد من التجارب النووية والصاروخية.السؤال الذي يطرح نفسه بقوة اليوم هو هل ستلعب بكين الدور الذي لعبته موسكو في الأزمة الكوبية في العام 1961؟ ثمة توجّس صيني من السلوك الأمريكي الأخير والذي سمح فيه دونالد ترامب بإطلاق برامج تسليحية نووية لكوريا الجنوبية، الأمر الذي تعتبره بكين تهديداً استراتيجياً لأمنها القومي، تماماً كما اعتبرته واشنطن عندما نشر الاتحاد السوفييتي صواريخه على الأراضي الكوبية، في هذه الحالة ربما هذه التجربة ستجبر بكين على الدخول بقوة لإدارة الأزمة مع واشنطن، والتي ستجد في النهاية مساراً تفاوضياً تبتغيه بيونج يانج وتستفيد منه كل من واشنطن وبكين في آن معاً.ثمة تطابق يجري الآن في سياق علم إدارة الأزمات الدولية ومسار الأزمة الكورية الشمالية، حيث بلغت بؤرة التوتر إلى نهاياتها مع وجود مصلحة حقيقية لأطرافها للاستثمار فيها كل في وجهته، إذ تعلم الأطراف المعنية أن المضي فيها لن يحقق الغايات المرجوة، وأن الاستثمار السياسي يجلب المنافع ويقلل نسب الخسائر المتبادلة، وبذلك، يبدو أن الأطراف ستتجه حتماً إلى البحث عن مسارات أخرى، من بينها العودة إلى طاولة المفاوضات التي قادتها سابقاً كل من واشنطن وموسكو وبكين وطوكيو. وعلى الرغم من بعض السلوكيات السياسية المتهورة التي ظهرت مؤخراً، فلم تخرج أيضاً عن السياقات المعتادة في إدارة الأزمات الدولية المتشعبة بمصالح إقليمية يحسب لها حسابات دقيقة أيضاً.
مشاركة :