دعوة الطاهر لبيب إلى «القطيعة» تحريك مختلف للتاريخ

  • 9/9/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

من الصعب تقديم الطاهر لبيب صاحب «سوسيولوجيا الغزل في الشعر العربي»، الكتاب الذي أدى إلى إرباك كافة المفاهيم النمطية الغربية عن الشعر العذري. لنقل إنه عالم الاجتماع التونسي الشهير الذي يسعى جاهداً إلى أن يُعيد الأهمية للاجتماعي، الفعل والمعنى والدلالة، وكلها أبعاد فقدت وجودها المُعلن لمصلحة الثقافي. ينطلق لبيب من الاجتماعي البحت ليحلل تجلياته السياسية والبعد الثقافي الذي تحاول السلطة إضفاءه عليه. بهذا يكشف لنا تحليل لبيب دائماً آليات السلطة وكيفية إعادة انتاجها لنفسها، وفي المقابل هناك بالنسبة إليه، الفاعل الحقيقي الذي لا يمكن إغفاله: الشعب. من هنا يتميز الخطاب التحليلي لهذا العالم بقدرته على صوغ الأزمة والإشكاليات التي يتمحور حولها واقع المجتمع العربي الآن. وكما أقام ميشال فوكو أطروحته على تاريخ المرض والجنون والسلطة في الغرب، فقد أقام الطاهر لبيب خطابه على أساس العلاقة الجدلية بين إشكاليات الواقع اليومي المعيش وبين تفسيراته من ناحية أخرى. لكل ذلك لا يمكن تجاهل حوار منشور مع عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب، فدائماً ما تدفعنا أفكاره إلى إعادة النظر في اليومي المعيش برؤية أكثر وضوحاً. في هذا السياق، قام كمال الديب، رئيس تحرير مجلة البحرين الثقافية، بإجراء حوار مع لبيب، ونشر الحوار اخيراً في المجلة. تناول الحوار العديد من المحاور الرئيسة والمثيرة للجدل، وقد تبدو محاور غير جديدة، لكن طرح السؤال على لبيب هو الذي يمنح المحور جدة وراهنية. في زمن التطرف والعنف الأصولي والتراجع الفكري والاقتصادي والاجتماعي الذي تمر به المنطقة العربية، يطرح الديب على لبيب السؤال الذي قد يكون أصبح الآن بمثابة هم جماعي يؤرقنا جميعًا، فيسأله عن إشكالية مقاومة التجديد في العالم العربي التي تجعل البحث العلمي والمنتج المعرفي محروماً من التأثير في الواقع. بالطبع أتفق تماماً مع الديب، فنحن نبدو وكأننا نكتب في صحراء جرداء، لا يمر بها إنسان، وكأن الكلمات والأفكار تتبخر بمجرد ملامسة الحبر للورق أو كأن ذاكرة الكمبيوتر تبتلع الحروف وترسلها إلى الفضاء. لكن لبيب يُعيد ترتيب الأمر، إذ يرى أن هناك كتباً مؤسسة ويذكر منها كتب هشام شرابي وعابد الجابري وهشام جعيط (فقط ينسى أن يذكر أي امرأة كنوال السعداوي أو فاطمة المرنيسي أو فهمية شرف الدين أو مي غصوب، لا بأس)، لكنها أفكار تتعثر بحواجز قد نُصبت عمداً وقد تكون قانونية أو دينية أو إجرائية، ما تعارفنا عليه باسم حرية التعبير. من ناحية أخرى ومن باب التواطؤ لا يسعى خطاب التعليم أو الإعلام إلى استيعاب هذه النصوص من جهة عرض أفكارها والاشتباك معها، فتتحول هذه النصوص إلى حفنة حصى مرمية في «بركة آسنة»، وهي بركة تحتاج إلى إعصار مدمر وليس حفنة حصى. وفجأة يُطالعنا القول الفصل القاطع: «لن ننتج المعنى إلا إذا كفت الغالبية عن القول والكتابة». فغالب ما يُقال ويُكتب هو تكرار وإعادة، والإعادة لا تنتج معنى، بل أجرؤ على القول إن التكرار يؤدي إلى توليد اللامبالاة، وربما تبلد الحس، إذ تفقد الفكرة قدرتها على إثارة الدهشة أو حتى على تحفيز التفكير. يحدث كل ذلك بالتواطؤ المتفق عليه بيننا جميعاً، ليصطدم رأسنا مرة أخرى بجدار التطرّف واللاعقلانية والأيديولوجيات المفترسة. نسقط في صور العنف لتعود الأنظمة وتلقي اللائمة- بمنتهى الجرأة- على المثقفين الذين لم يهبوا لتوعية المجتمع، ويقول لبيب: «هذا التوحش لم يأت من المريخ. إنه نتاج هذا المجتمع بعد أن سُدت فيه مسالك التجديد الفكري ونشره». كيف السبيل إلى الخروج من هذه الدائرة الجهنمية؟ المنتج الفكري يبقى حبيساً في مساحة ضيقة - دوائر المثقفين - حتى يتوغل التطرف ويلف رأس المجتمع فتعود الأنظمة لتسمح للمثقف بالحركة - تحت مراقبتها - بحيث يكون الوقت قد تأخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. يرى الطاهر لبيب في هذا السياق أن إشكالية الفكر العربي هي عدم قدرته على إجراء قطيعة مع الماضي، وهو أمر ليس بمستغرب. إذا استرجعنا ذاكرتنا القريبة نجد أن كل فكرة تُطرح تسعى إلى إرساء نسبها في الماضي، فتجدها وقد جاءت مُحملة بأم وأب قدما من الماضي بلباس تاريخي ويرغبان في العيش في الحاضر بلباس حديث. كيف؟ حتى أن إشكالية الأصالة والمعاصرة (ومثلها النقل والعقل، الماضي والحاضر، التقليد والتجديد، الشرق والغرب، الإسلام والآخر) لا تزال مطروحة في البحث الأكاديمي. يتعجب الطاهر لبيب من منظومة الفكر العربي بحيث «تستطيع أن تنتقل من مرحلة إلى أخرى وأنت تحمل المرحلة السابقة بالكامل. هاجس الماضي تجده حتى عند أكثر الناس تقدمية وثورية، خصوصاً إذا كانوا سياسيين لأنهم يرون أن الاستعانة بالماضي توسّع قواعدهم الشعبية»، فيتحول الماضي إلى مصدر للحصول على الشرعية وكأننا بصدد تتبّع نسب قبيلة. على سبيل المثل، عندما بدأ الخطاب النسوي ينتشر في العالم العربي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، كان لابد أن نرى أن الأفكار لا تتعارض مع الإسلام، فكان الرد حاضراً من الجمهور ومفاده أن الإسلام منح المرأة حقوقها فلماذا الاستعانة بمصادر من خارجه. وهو ما يفسر الغضب الذي اجتاح المؤسسات الدينية والمجتمعية تجاه التعديلات الأخيرة التي تعتزم تونس إجراءها في ما يتعلق بالزواج والميراث. يحتاج الأمر هذه الجرأة- القطيعة، ولكنه يستدعي أيضاً تحمّل الاتهامات والتشويه، يحتاج الأمر إلى مواجهة التشبيه الذي قدّمه الطاهر لبيب: «أتصوّر أحياناً أن العرب يمشون القهقرى. من يرى الماضي دائماً أمامه لابد أنه يمشي متراجعاً إلى الخلف. الصورة مجازية لكنها تعكس واقعاً، وهي محزنة...». هو واقع (وليس صورة) محزن بالفعل، يتحرك داخل مساحة ضيقة لا ترى الضوء، ترى فقط الآخر الغربي الذي يُهدد الثقافة ويسعى إلى النيل منها. وهو أمر جائز ولكنه ليس الزاوية الوحيدة التي تساعدنا على تفسير العالم حولنا. فطالما استمرت الشعارات التي ترفعها اللغة في التحكم في واقعنا اليومي سنبقى في هذا الانغلاق الذي يولّد التطرّف خارجنا والغضب داخلنا. قد يكون الحلّ الأمثل الآن هو التوقّف عن التكرار، عن إنتاج اللا معنى. ولابد من طرح سؤال القطيعة مع فكر سائد يُمجّد اللامعقول ويجري خلف الشائعة ويصنع عدواً لا يُقهر من أجل أن يماطل في تنفيذ الإرادة الفعلية.

مشاركة :