المعضلة أن الصحافيين لا يمتلكون الجواب في تعريف أنفسهم ومن هم في العصر الرقمي، وما أهمية عملهم بين جيل الهواتف الذكية! ولسوء الحظ أن التاريخ نفسه عاجز عن تقديم دروسه لهم من أجل استلهامها>العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/09/09، العدد: 10746، ص(18)] هل لدى التاريخ شيء كي يعلمه للصحافة؟ التاريخ يقدم دروسه الدائمة لكي تُستلهم، إلا أن مشاكل الصحافة تكمن في المستقبل! تمثل الصحافة عبر التاريخ القوة والسلطة والاستحواذ على العقول، إلا أن مثل هذه السطوة تكاد تتلاشى يوما بعد آخر، ولم تعد مهنة ذات امتياز لمجموعة من الأسماء، بعد أن أُنزل الصحافي من برجه العالي، وصارت قوة المواطن الصحافي تهدد مهنة الذين كانوا في يوم ما من المحظوظين. لقد تم تحطيم العالم الحصري لشارع الصحافة، ولم يعد مبنى الصحيفة في نظر الناس يملك الهيبة والأسرار ما يجعله حلما يتوق الآلاف لولوج أروقته. كل شخص قادر على تشييد صحيفته بنفسه، وليس مهما بعدها ما يجري. الصحافة مهنة لا تختلف عن التمريض اليوم وفق وصف بيتر بيرستون رئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق، من السهل أن تكون صحافيا مثلما ليس صعبا أن تختار التمريض مهنة لك. ماذا عن المستقبل، قد يكون القلق ينتاب مجموعة من المهن المهددة بمستقبل تكنولوجي آلي، لكن مهنة الصحافة مهددة كليا، فلم تعد الحاجة ماسة للصحافي التقليدي الذي يفكر أكثر مما ينبغي وينظر بأكثر من عين، العالم أضحى مشيدا بالملايين من العيون الرقمية تشهد الأحداث وتسجلها وتبثها في لحظة حدوثها، هذا العالم المدار بجيل الهواتف الذكية لا يغفل حدثا وإن كان هامشيا، فما حاجتنا إذن بالسيد الصحافي ذي الوظيفة التي كانت مرموقة في يوم ما؟ سايمون كوبر الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز، يبدو حزينا حيال توقع المتفائلين بأن فرص العمل القديمة المختفية ستستبدل بها وظائف جديدة، ويقول “بالنسبة للصحافيين مثل هذا الأمر كان صحيحا بالتأكيد، لكن المشكلة هي أن معظم الصحافيين يريدون أن يبقوا صحافيين!” هذا يعني أن مهنتهم على وشك التلاشي فعليهم البحث عن عمل آخر. إلا أن جون سنو مقدم النشرة الإخبارية المخضرم في القناة البريطانية الرابعة، يرى أن ثورة وسائل الإعلام الرقمية لم تملأ الفراغ الذي خلفه اندثار صناعة الصحف المحلية، ولم يعد ثمة ما يربطنا كصحافيــين بالمُهمشين والمحرومين والمُستبعدين. ويقول سنو “في الواقع، أدى الاحتكار المعلوماتي الذي تمارسه شركتا فيسبوك وغوغل إلى إضعاف الإيرادات الرقمية في السوق بعدما علق عليهما الكثيرون آمالا في أنهما ستحافظان على جودة الصحافة لسنوات قادمة. نحن الآن بحاجة إلى العمل معا لإيجاد طريقة دعم أخرى قبل فوات الأوان”. أعتقد أن الجميع يدورون في حلقة محورها جودة الصحافة لاستعادة القراء الأوفياء، غير أن هذا الدوران جعلهم يفتقدون السبل، فليس بين كل الخبراء في شؤون الإعلان والناشرين ومنظري الجدوى الاقتصادية من يتفق على مفهوم “جودة الصحافة” في عصر الهواتف الذكية. الجودة الإخبارية والمحتوى المتميز كلمات براقة ومغرية وتبعث على الأمل، لكنها في الواقع تصبح كغيرها في الصناعة الإخبارية الراقدة في السوق المريضة، ولا تؤول إلى قوة التسويق. لا يمكن للصحافة أن تستند على تاريخها الحصري المحتكر لصناعة الأخبار، عندما لم تكن كل تلك البدائل متاحة آنذاك، ولم يكن غير الذي يمتلك قوة الأفكار أن يشغل مهنة محرر. من أنتم؟ ذلك السؤال الذي أطلقه بثقة وقوة المواطن الصحافي عندما صنع خبره الأول على منصته الخاصة، وتكرر بحدة بوجه الصحافي أكثر عندما امتزج بأصوات ملياري مستخدم لجيل الهواتف الذكية، صار مروعا وأكبر من فكرة التهكم نفسها في سؤال من أنتم؟ المعضلة أن الصحافيين لا يمتلكون الجواب في تعريف أنفسهم ومن هم في العصر الرقمي، وما أهمية عملهم بين جيل الهواتف الذكية! ولسوء الحظ أن التاريخ نفسه عاجز عن تقديم دروسه لهم من أجل استلهامها! صحيح أن التاريخ قد أرخ لكل الإنجازات الصحافية في مدونته، لكن تلك المدونة على ضخامتها لا تقدم درسا في العصر الرقمي، إنها مدونة الحنين والمجد الآفل ليس إلا، والتاريخ ليس أبا ضامنا للصحافة من أجل مستقبلها، لأن السوق المريضة تزداد مرضا، وكل ما يقدم من الدواء ليس ناجعا ومؤملا بالشفاء. كل الدعوات تطالب الحكومات بالضغط على عمالقة العالم الرقمي لإعادة الصحافة إلى سكتها، عبر الدعم المالي والإعلاني والترويج المنصف لها على المنصات الرقمية ومحركات البحث التي تستحوذ على ألباب الجماهير. كل هذا جزء من الحل، الأموال وقود لاستمرار المضي في الطريق! لكن مشكلة الصحافة اليوم ليست بالاستمرار وحده، بل بالمحطات التي تمر بها في العصر الرقمي وأيا من الركاب مازال يرغب في السفر بهذه الوسيلة الورقية، بينما جهازه الصاروخي يمتلك من البدائل ما يفوق التوقع يوما بعد آخر. إذا توفر المال كطاقة داعمة، ماذا عن الصحافي كمنتج؟ هل بات بمقدوره أن يقدم محتوى مغريا يعيد القراء إلى صحيفته؟ تلك مشكلة الصحافة مع المستقبل، ولأنها مع المستقبل لا توجد في التاريخ دروس كي يقدمها، غير المجد الآفل. كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة
مشاركة :