بيتر بريستون الذي ترأس تحرير صحيفة الغارديان البريطانية وأخلص للصحافة المطبوعة وأمن ببقائها وسط التنافس الشديد مع الصحافة الرقمية، ترك دروسا لأجيال من الصحافيين، كنا نتعلم منه الحكمة التي يستلها من تجربته في قراءة ما يجري من أحداث.العرب كرم نعمة [نُشر في 2018/01/13، العدد: 10868، ص(18)] أتخيله لا يتوقف عن التفكير منذ استيقاظه المبكر صباح كل يوم، أنه مشغول بمستقبل الصحافة وبعد أكثر من عقدين من تقاعده، في حقيقة الأمر أن بيتر بريستون الذي اختطفه الموت قبل أن يضع قدمه في بداية عقده الثمانيني، لم يتقاعد وبقي صحافيا مخلصا للكتابة حتى يومه الأخير، لنا أن نعود إلى مقاله الأخير في ليلة رأس السنة الأسبوع الماضي، بينما اختطفه الموت بعدها بستة أيام. هذا العجوز الذي ترأس تحرير صحيفة الغارديان البريطانية وأخلص للصحافة المطبوعة، وآمن ببقائها وسط التنافس الشديد مع الصحافة الرقمية، ترك دروسا لأجيال من الصحافيين، كنا نتعلم منه الحكمة التي يستلها من تجربته في قراءة ما يجري من أحداث، بينما كان يسهم بشكل فعّال في استقراء البدائل المتاحة أمام الصحف البريطانية في أوجّ أزمتها بعد دخولها السوق المريضة. رحل بيتر بريستون الذي يعتبر على نطاق واسع كواحد من أرقى الصحافيين في جيله، انضم لصحيفة الغارديان عام 1963، ورأس تحريرها ما بين عامي 1975 إلى 1995 وأشرف على الأوقات الأكثر دراماتيكية في تاريخ الصحيفة البريطانية العريقة، لكنه لم يغادرها بعد هذا التاريخ وبقي مخلصا للفكرة التي لم يتوقف عن إعلانها في مقالات مستمرة. أطلق في عام 1996، الملحق اليومي للغارديان G2، وكان تحريضه وأفكاره الهادئة وراء إعادة تصميم جذرية للصحيفة في عام 1988. وسجلت الصحيفة زيادة في التوزيع خلال فترة رئاسته للتحرير وصلت إلى 500 ألف نسخة يوميا. عاش بريستون العمر الافتراضي لرئيس التحرير مضاعفا دون أن يكرّر أفكاره، فعلى مدى عقدين من الزمن كان يقف في طليعة الابتكارات الصحافية، وتحويل الغارديان إلى قوة وطنية حقيقية ذات سمعة دولية، والتحريض على إعادة تصميم جذرية ومثيرة للإعجاب التي ساعدت الصحيفة على الكفاح ضد الحرب الوحشية لتسعير المادة الصحافية التي كان يديرها إمبراطور الإعلام روبيرت مردوخ سواء في الصحف الشعبية التي يمتلكها أو في صحيفة التايمز المنافسة للغارديان. ووصفت كاثرين فاينر، رئيسة تحرير صحيفة الغارديان، بريستون بـ”المحرر الرائع” و”السخي والداعم”. وقالت “منذ أن أصبحت رئيس تحرير صحيفة الغارديان والأوبزرفر في عام 2015، كان بيتر صديقا وداعما بشكل مثير للقلق، وتقديم المشورة والأفكار بشكل صبور ومثالي”. بينما اعترف آلان روسبريدغر الذي شغل منصب نائب بريستون وخلفه في رئاسة تحرير الصحيفة، بأن الغارديان مدينة له بدين هائل. وقال “لقد جمع بين النزاهة العظيمة والمتانة العنيدة والإنسانية اللائقة مع رؤية إستراتيجية حقيقية، لم يسع إلى الشركة مع السياسيين، وكان شجاعا، وشجاعا في قيادة الصحيفة”. يرسم مايكل وايت، المحرر السياسي السابق في صحيفة الغارديان، صورة واقعية لبيتر رئيس التحرير، بأنه يبدو للوهلة الأولى المحرر غير المحتمل في فليت ستريت، لكنه في الواقع لم يتنازل عن الكاريزمية ولم يرفع صوته أبدا سواء في المحادثة أو الكتابة. قد أبدو مغاليا أمام القارئ العربي، وأنا أعرض لجانب من سيرة رئيس تحرير سابق لصحيفة بريطانية لا يعرفه، لكن الواقع أن تجربة بيتر بريستون وآراءه في الأحداث تقدّم لنا درسا صحافيا ثمينا. فعندما صوّت البريطانيون لمشروع بريكست والخروج من الاتحاد الأوروبي في صدمة سياسية واجتماعية ضربت البلاد، اتهم بريستون الصحافة بإطلاق فقاعات ثم تحتار بها، بالإشارة إلى “الضجيج الإخباري” عن شخصيات سياسية وجدت ثقلها في الصحافة أكثر مما قدّمته في السياسة. لقد واجه الجمهور بآذان صمّاء كل التحذيرات والتحليلات الصحافية والصراخ التلفزيوني وأعاد مسار الانتخابات البريطانية وفق ما يراه وليس وفق قوة تأثير وسائل الإعلام وانحيازها، وهذا يعني أن الوقت قد حان لإعادة النظر في وهم قوة الصحافة، وفق بريستون المحلل للمضمون الإعلامي. عرض بريستون لنتائج الانتخابات البرلمانية التي تلت تصويت بريكست وتوجه الصحف البريطانية قبل الانتخابات وكيف أنها فشلت في إدارة عقل الناخب، فتحليلات الصحف اليمينية لإمبراطور الإعلام روبيرت مردوخ، لم تكن سوى تحذيرات بعذاب سياسي سَحَقهُ الناخب البريطاني في ما بعد، بل إن كلام صحيفة ديلي ميل في يوم الاقتراع بأن الأصوات كلها ذاهبة للمرأة الحديدية 2، لم يكن سوى تأكيد للجملة الفلكلورية “كلام جرائد”، فلم تعد تيريزا ماي الروح البريطانية، وإنما وجدت نفسها في ورطة. وتساءل بريستون بعد كشف الصحافة لفضيحة التحرش الجنسي في هوليوود، في وقت تستحق الصحافة الأميركية الثناء على كسر كل ذلك الصمت لسنوات وكشف قصة سقوط واينستين من قبل صحيفتي نيويورك تايمز ونيويوركر “ألم يكن هارفي واينستين محميا لعقود من قبل الصحافة الجبانة”. بينما عبّر عن استيائه بعد الفيلم الذي صوّره أحد الصحافيين لمدرب منتخب إنكلترا المقال سام ألاردايس وهو يتحدث مع صحافيين سريين منتحلين صفة رجال أعمال، حول طرق الالتفاف على قواعد لوائح اتحاد كرة القدم. وتساءل قائلا: إذا مارس الصحافي دور الشرطي السري فقد سقط في كسب ثقة نفسه، ومارس سلوكا غير أخلاقي يؤثر على الجمهور. لا يبرر بريستون، الذي لم يتوقف عن كتابة أعمدة أسبوعية عن التقاليد الصحافية، ممارسة الصحافيين أدوارا زائفة واستخدام كاميرات خفية تحت مسوغ المصلحة العامة، بل يرى أن جدارة الصحافي في الحصول على أفكار واضحة بما فيه الكفاية وبطريقة مشروعة. يجمع كل زملاء بيتر بريستون على هدوئه في أوجّ لحظات العمل التي تتطلب الحسم السريع وتدفع إلى الانفعال، لكنه وفق الأفكار التي تركها بشأن قيم الصحافة، كان “حنجرة عميقة” لم يخف صوتها في زحمة جيل الهواتف الذكية. كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة
مشاركة :