إلياس سحابفي منتصف القرن المنصرم، وما إن تجلت نهاية الحرب العالمية الثانية (وملحقها الحرب الكورية)، عن تشكل معسكرين رئيسيين في السياسة الدولية، المعسكر الرأسمالي (المعبر عنه بحلف شمال الأطلسي)، والمعسكر الاشتراكي (المعبر عنه بحلف وارسو)، تحركت في جنبات الحياة الدولية، خارج إطار هذين المعسكرين، مجموعة من القوى السياسية والاجتماعية الصاعدة، لتشكل بسرعة قياسية، صمام أمان جدّي في الحياة السياسية الدولية، عرف يومها باسم «كتلة عدم الانحياز» وكان من ألمع قادته (ومؤسسيه) كل من رئيس الوزراء الهندي نهرو والرئيس اليوغسلافي تيتو والرئيس العربي جمال عبد الناصر والرئيس الصيني شوان لاي. وهي كتلة أثبت التاريخ البشري المعاصر أنها كانت أكثر من ضرورية لكسر حدة الحرب الباردة بين المعسكرين الكبيرين، وعدم تحول النزاعات المتفاقمة والمستمرة فيما بينهما، إلى فرص لإطلاق حرب عالمية ثالثة.لكن الحياة الدولية شهدت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكك نظام الحرب الباردة بين المعسكرين، أكثر من تطور، مر لفترة قصيرة جداً نسبياً، بعصر احتكار الولايات المتحدة زعامة مرحلة القطب الأوحد. وهي مرحلة تراجعت كثيراً بسبب سلسلة من المشاريع التوسعية الفاشلة التي خاضتها واشنطن في كل أرجاء الكرة الأرضية، انتشاءً بالانهيار المفاجئ لخصمها اللدود الاتحاد السوفييتي (ومعه المعسكر الاشتراكي).ننتقل فوراً إلى المشهد الدولي الراهن، الذي تلبدت فيه كثير من الغيوم مع وصول ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، واكتمل تلبد الغيوم مع تفشي انتشار الكيان الصهيوني في جميع أرجاء فلسطين التاريخية، التي يتم تهويدها شبراً شبراً، وفي منطقة أخرى من العالم من الشرق الأقصى، زاد تلبد الغيوم في الحياة الدولية مع وصول قيادة جديدة إلى زعامة كوريا الشمالية، تواصل ممارسة سياسة استفزازية صارخة في ذلك المحيط الحساس من الكرة الأرضية.ومع وصول الأزمة الأخيرة التي فجرها إطلاق كوريا الشمالية لقنبلتها الهيدروجينية إلى حدود التهديدات الحربية الساخنة بين واشنطن وبيونج يانج، لمعت في الأفق البعيد سحب هادئة، ولمعت أشعة شمس تبعث على التفاؤل بعيداً عن أجواء الغيوم الدولية السوداء الملبدة في سماء الكرة الأرضية. وكان مصدر هذه الفسحة الجديدة في الحياة الدولية تلك التحركات الهادئة للمجموعة الدولية التي عرفت باسم «بريكس»، وتضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، والتي بدأت تحتل رويداً رويداً وبهدوء شديد ليس فيه أي ضجيج حربي، موقعاً بارزاً في كل مسارح الحياة السياسية الدولية، ومنها منظمة الأمم المتحدة.لقد برز دور هذه المجموعة الدولية التي تذكرنا كثيراً بكتلة «عدم الانحياز»، في عصر الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، في الأزمة الساخنة الأخيرة التي اندلعت بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، بتصريحات حربية من الطرفين، مشبعة برائحة الحرب النووية المهلكة للبشرية، عن طريق اضطرار الرئيس الأمريكي للجوء إلى الصين، أحد أقطاب مجموعة «بريكس»، للتدخل لدى كوريا الشمالية لاحتواء سياسي هادئ لنيران الأزمة المشتعلة. وقد قام الرئيس الصيني، الذي يشار إلى أنه لعب أبرز الأدوار، في الاجتماع الأخير لمجموعة «بريكس»، قام بدوره ببراعة شديدة، وسرعان ما دفع الرئيس الأمريكي إلى التراجع، والتصريح بأن الخيار العسكري الأمريكي ضد كوريا الشمالية ليس بين خياراته الأولى.طبعاً، ليس هذا سوى نموذج منفرد عن الأدوار المدعوة للقيام بها مجموعة «بريكس»، لسائر مكوناتها، وربما بتناغم مع بعض القوى الرديفة في الاتحاد الأوروبي، الذي بدأ بعض أطرافه بالتعبير عن الاستقلال عن النفوذ الأمريكي الساعي إلى استعادة احتكار السيطرة على الحياة السياسية الدولية.إنها فسحة أمل في الحياة السياسية الدولية، تذكرنا كثيراً بكتلة «عدم الانحياز» السابقة، وتعدنا بظهور أدوار لها في كل الحياة السياسية الدولية، وبقدرة كبيرة على التأثير.
مشاركة :