في مذكرات عمرو موسى: شهادتي على الحقبة الناصرية ونكسة 67

  • 9/12/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في  الحلقة الثانية من مذكرت السياسي المصري البارز، وزير الخارجية والأمين العام الأسبق للجامعة العربية، عمرو موسى، يستعرض شهادته على الحقبة الناصرية، وهزيمة 1967 وانتصار العرب في أكتوبر 1973.. وقال «موسى»: التقيت عبد الناصر مرتين في حياتي. الأولى كانت في 21 أكتوبر/ تشرين الأول  1966 في نيودلهي، عندما ذهبت مع وفد ترأسه هو للقاء أنديرا غاندي، بعد توليها رئاسة وزراء الهند. فقد تقرر عقد قمة ثلاثية لأنديرا مع عبد الناصر والرئيس اليوغوسلافي جوزيف تيتو، قطبي عدم الانحياز دعماً للزعيمة الجديدة للهند. جلست أنا وعبد الرؤوف الريدي خلف الرئيس لنكتب محضر اجتماعه مع أنديرا غاندي.هزيمة 1967 المرة الثانية كانت أثناء عملي بمكتب وزير الخارجية، محمود رياض، قبل هزيمة يونيو 1967 بأيام، وهو التاريخ الذي أعتبره نهاية صولجان عبد الناصر وبداية لتدهور الأحوال المصرية. قبل بدء الحرب قرر عبد الناصر إغلاق خليج العقبة، وسحب القوات الدولية من سيناء، وأغرق البلاد بأجواء تعبوية كبيرة. أذكر أن من بين الشعارات التي تم ترديدها في الإعلام خلال هذه الفترة «العقبة قطع رقبة»، في إشارة لمصير أي قوة «إسرائيلية» تحاول المرور من خليج العقبة بالبحر الأحمر..حدث ما حدث في 5 يونيو/ حزيران ، فأصبت بإحباط مهول. كنت حزيناً جداً، مبعث حزني أنني كنت قد بدأت أتلمس الحقيقة بعد مضي عدة ساعات على اندلاع القتال. كنا في مكتب الوزير نعرف أن إذاعتنا وصحافتنا تكذب بشأن حجم الطائرات التي يتم الإعلان عن أننا أسقطناها؛ لأننا نستمع إلى إذاعات أجنبية كثيرة، ونطّلع بانتظام على تقارير وكالات الأنباء ذات المصداقية، وكلها أجمعت على تقدم القوات «الإسرائيلية» في سيناء. بعد يومين من القتال كانت حقائق الموقف قد تبلورت أمام وزير الخارجية محمود رياض ومدير مكتبه السفير محمد شكري، الذي رأيته خارجاً من مكتب رياض قبيل ظهر 7 يونيو وهو في حالة بكاء هيستيري. وقع الرجل على الأرض مغشياً عليه من هول الصدمة رغم رباطة الجأش المعروفة عنه، حيث كان ضابطاً سابقاً بالجيش. هنا بالضبط تيقنت بأن شكوكنا بشأن حدوث كارثة كبيرة قد تأكدت.   ساعدت شكري بدعم من بعض العاملين في المكتب على الوقوف حتى أفاق. أمرت السعاة بالانصراف، والرجل غير قادر على التوقف عن البكاء. سألته عما جرى، فقال: «كارثة.. اليهود وصلوا قناة السويس». أصابتني صدمة كبيرة وإحساس بالمهانة والإحباط رغم أن كل الشواهد كانت تشير إلى وقوع هذه المصيبة. بدأنا نقول لأنفسنا إن الذي يجعل الكارثة تصل لهذا الحجم هو أننا بالتأكيد لم نكن مستعدين، وأن القرار السياسي الذي أدى إلى الحرب كان بالقطع خاطئاً، وحساباته غير دقيقة، وتوقعاته غير سليمة تكاد تصل إلى حد المقامرة. لم يكن يصح أن نعرّض بلدنا لهذا التحدي المدمر! غادر الوزير إلى اجتماع ما في الأيام الأولى بعد تلك الكارثة الوطنية، وأغلق السفير شكري مكتبه ليستريح بعض الشيء. ودخلت بمفردي غرفة الاجتماعات الملحقة بمكتب الوزير. رصصت 4 كراسي بجوار بعضهم البعض كي أستطيع أن أستلقي عليهم من فرط التعب والإرهاق. شعرت بإنهاك وإجهاد غير عادي. استلقيت على الكراسي وشبكت كلتا يدي وأسندت بهما رأسي، وعيناي شاخصتان في سقف الحجرة، ورحت أفكر بعمق.           صحيح كانت هناك انتقادات كثيرة لبعض الأوضاع، لكنني في هذه الفترة من حياتي (31 سنة) لم أكن أنصت إليها، أو أقتنع كثيراً بها، مثل تراجع الإنتاجية الزراعية بعد تفتت الرقعة الزراعية على صغار الفلاحين في الإصلاح الزراعي. كانت هناك شكاوى من تدخل البعض بتشويه بعض الحقب التاريخية على حساب أخرى، مثل تلك التي سبقت ثورة 23 يوليو 1952م، وكأن كل الأوضاع قبلها كانت شراً مستطيراً. كانت الأنباء تتري عن وجود صراعات بين القيادة السياسية الممثلة في عبد الناصر، والقيادة العسكرية المتمثلة في المشير عبد الحكيم عامر. كانت هذه من الأمور التي تبعث على قلق النخبة (على الأقل)، فضلاً عما تواتر عن قمع أي بصيص للمعارضة، وما عرف عن تدجين الصحافة. كل ذلك شريط مر أمامي وأنا ملقى على كراسي غرفة الاجتماعات. رحت أفكر.. كيف لهذه الهالة وهذه الأحلام البازغة أن تتحول إلى سراب؟ كانت الهزيمة ثقيلة جداً، مهما حاول البعض التخفيف منها بتسميتها «نكسة»؛ لأنها كانت هزيمة بكل معنى الكلمة. لقد كان 5 يونيو/ حزيران  بداية طريق طويل انتهى بثورة 25 يناير 2011، ولا يقدح في ذلك دور الرئيس السادات ونجاحه في حرب أكتوبر؛ لأن ذلك لم يقترن بإصلاح واع وشامل لأمور مصر.     عضو بـ «التنظيم الطليعي» انضممت خلال الحقبة الناصرية إلى «التنظيم الطليعي»، غير أن دوري فيه لم يكن كبيراً. الذي ضمني إليه هو السفير فتحي الديب خلال عملي معه في السفارة المصرية في سويسرا. كان ذلك في أوج سطوع نجم عبد الناصر خلال الثورة الجزائرية، التي كانت في قلب السياسة الخارجية المصرية في أوائل الستينات. عندما عدت إلى مصر من سويسرا أصبحت عضواً في إحدى المجموعات التي كان مقررها السفير محمد شكري. كانت النقاشات تتم حول السياسة الخارجية والأوضاع الداخلية والتصنيع، وكيف أننا نجحنا فيه «من الإبرة للصاروخ»، ولم نسأل أنفسنا ماذا نعني بالإبرة والصاروخ؟.. خصوصاً أن الإبرة وقتها لم تكن مصنوعة بشكل جيد، والصابون لم يكن يحدث رغوة، ولا «البشاكير» تجفف كما يجب! كانت مثل هذه الملاحظات على الصناعة تترسب في النفس دون أن نشعر بها، لكنها مع الكثير من السلبيات الأخرى التي لم نتوقف أمامها من قبل صغيرة كانت أم كبيرة انفجرت مع الهزيمة وفقد سيناء. لم أحضر أي اجتماع للتنظيم الطليعي بعد 5 يونيو/ حزيران، ولم يسأل عني أحد.     انتصار أكتوبر 1973 طوال السنوات الأربع (1960 – 1964م) التي قضيتها في سويسرا لم أنس قط أن خياري الأول في العمل الدبلوماسي هو العمل في وفد مصر الدائم بالأمم المتحدة؛ ولذلك عند عودتي من برن، وعملي لمدة 4 سنوات بمكتب الوزير كنت مصراً على أن تكون وجهتي الخارجية التالية إلى هذه المنظمة الدولية الأكبر في العالم. في سبتمبر / أيلول  1968  صدر قرار بتعييني عضواً في وفدنا الدائم لدى الأمم المتحدة، اختارني السفير محمد عوض القوني، مندوب مصر الدائم في ذلك الوقت لأعمل مع ممثل مصر في اللجنة الثالثة، من لجان الجمعية العامة للأمم المتحدة الرئيسية، والخاصة بالمسائل الإنسانية وحقوق الإنسان.   بدأ نجمي يبزغ في أروقة هذه المنظمة الدولية الكبيرة خلال عملي بهذه اللجنة التي زادت أهميتها بعد أن قررت الدول العظمى وقف مناقشة موضوع الشرق الأوسط في الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجانها، كي يتركوا الفرصة للسياسيين للعمل بعيداً عن الضغوط في إطار مفاوضات واتصالات دبلوماسية، على أن تستمر مناقشة ما يتعلق بالجانب الإنساني في الصراع بين العرب و«إسرائيل» في اللجنة الثالثة باعتبارها المعنية بالجوانب الإنسانية وحقوق الإنسان. من حسن الحظ أنني أصبحت مندوب مصر الرسمي الأول في هذه اللجنة، وهنا كان التدريب الحقيقي على النقاشات العامة وضبط تشعبها، وصياغة القرارات، والدفوع المتعلقة بالإجراءات، ومناقشة الأمور الحساسة في القضية الفلسطينية. بجانـــب أننـــي نجحـــت في تكويــــــــن «لوبــي» داخل هذه اللجنة من الدول العربية والإفريقية ومجموعة عدم الانحياز، كان له الكلمة الفصل في مناقشات هذه اللجنة.       أنهيت فترة خدمتي الأولى في وفد مصر الدائم بالأمم المتحدة، وعدت إلى مصر في 29 ديسمبر / كانون الأول سنة 1972 للعمل في مكتب وزير الخارجية. في 25 سبتمبر / أيلول 1973  سافرت ضمن الوفد الذي رافق وزير الخارجية، الدكتور محمد حسن الزيات إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. مضت الأمور عادية في أروقة المنظمة الدولية الأكبر حتى مساء يوم 5 أكتوبر؛ فالأجواء في نيويورك كانت تشير إلى أن شيئاً ما قد يحدث في الشرق الأوسط، مع تواتر أحاديث عن حشود عسكرية عربية وحشود «إسرائيلية» مضادة، لكنني بعد أن رجعت من حفل الإفطار الرمضاني الذي نظمه الدكتور عصمت عبد المجيد المندوب الدائم لمصر في الأمم المتحدة – آنذاك – للوزير وأعضاء الوفد المصري بمنزله (يوم 9 رمضان 1393هـ/‏ 5 أكتوبر)، وبعد أن أنهيت بعض الأعمال خلدت إلى النوم حوالي منتصف الليل. أيقظني تلفون وكيل وزارة الخارجية، الدكتور أحمد عثمان عند السابعة والنصف صباحاً بتوقيت نيويورك. قال عثمان بلهجة سريعة «عمرو.. عمرو.. إصحى بسرعة.. الحرب قامت في جبهة قناة السويس ويبدو إننا ماشيين كويس». انتفضت من على سريري وأنا أقول له: «أوعى يكون نفس البيانات بتاعت زمان، وأننا أسقطنا 70 طيارة و80 طيارة». قال لي: «ربنا يستر.. تعالى بسرعة الوزير عامل اجتماع للوفد كله».     أعددت نفسي بسرعة البرق، وهرعت إلى مقر البعثة الذي يبعد بنحو 300 متر عن فندق «هامبتون هاوس» الذي أقيم فيه. بمجرد وصولي وجدت عثمان أمامي. كانت الساعة قد اقتربت من الثامنة صباحاً (الثالثة بعد الظهر بتوقيت القاهرة). قال لي أنباء الحرب حقيقية، ويبدو أن قواتنا المسلحة قد بدأت عبور القناة. بدأنا نفرح لكن بحذر إلى أن يتم تأكيد المعلومات. ولما بدأت وسائل الإعلام الأمريكية ووكالات الأنباء العالمية تؤكد من «إسرائيل» أخبار عبور الجيش المصري لقناة السويس وتقدمه بطول الجبهة عمت الفرحة أوساط الوفد المصري.   كان من دواعي سرورنا وفرحتنا العارمة أن وكالات الأنباء نفسها تقول إن «البيانات المصرية تبدو عليها الرصانة وعدم الاضطراب، بشأن عبور القوات المصرية للضفة الشرقية للقناة، وأنها تحظى بمصداقية فيما يخص الإعلان عن الخسائر وما حققته على الأرض من مكاسب». أصبح مقر البعثة المصرية قبلة للوفود العربية والإفريقية والدول الصديقة، في حالة من الفرح الجماعي بما حققه الجيش المصري، بعد أن كدنا نفقد ثقة العالم في قدراتنا العسكرية، في وقت وصل الصلف «الإسرائيلي» منتهاه.   عندما انعقد مجلس الأمن في 8 أكتوبر / تشرين الأول ، كانت القوات المسلحة المصرية قد أتمت عبورها إلى الشط الشرقي لقناة السويس، وصدت بمنتهى القوة الهجوم المضاد الرئيسي للعدو في اليوم السابق، وهو ما انعكس بشدة على أدائنا أثناء جلسة مجلس الأمن، الذي دخلناه ونحن نشعر بقوة لم نشعر بها منذ احتلال أراضينا سنة 1967. جلس الزيات على رأس الوفد المصري، وخلفه عصمت عبد المجيد، المندوب الدائم، وأنا في مقعد المشكو في حقه، وجلس مندوب «إسرائيل» ومرافقون له في مقعد الشاكي. جاءت لي ورقة من المستشار الصحفي يخطرني فيها أن «خط بارليف قد سقط، وأن قواتنا تتمسك بمواقعها شرق القناة، وما معناه أنها صدت الهجوم المضاد الرئيسي للعدو، وأن عدداً كبيراً من الجنود «الإسرائيليين» وقعوا في الأسر». أعطيت هذه الورقة للزيات، فقال لي اذهب وأعطها للسكرتير العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، الذي أعلن النبأ أثناء انعقاد الجلسة. وأثناء عودتي إلى مقعدي عشت أسعد لحظات حياتي. كانت الشرفات تضج بالفرحة العربية، كان بعض الدبلوماسيين يبكون بطريقة هيستيرية فرحاً بالانتصار العربي على الغطرسة «الإسرائيلية». قلت سبحان الله! في ظرف 6 سنوات تغير الموقف من شرفات تهلل لانسحاب الجيش المصري من سيناء وطلب وقف إطلاق النار في يونيو 1967 وكانت الشرفات مليئة بيهود نيويورك، إلى شرفات تهلل لسقوط خط بارليف نهائياً في 8 أكتوبر/ تشرين الأول  1973 في أيدي القوات المصرية. خطب الوزير الزيات خطبة في منتهى البلاغة والمنطق تليق بالنصر المصري. كان مفهوماً سواء تحدث بالعربية أو بالإنجليزية. قوبلت كلماته بالتصفيق الحاد من الشرفات، بل ومن عدد من الوفود رغم أن ذلك لم يكن من تقاليد المجلس، ولكن يهود نيويورك صفقوا في يونيو/ حزيران  1967 وجاء دورنا لنصفق.   بعد سريان وقف إطلاق النار تعزز شعورنا بأن الاتصال بين الرئيس السادات ووزير خارجيته الزيات لم يكن كما يجب أن يكون الاتصال بين رئيس جمهورية ووزير خارجيته في وقت تخوض فيه بلادهما حرباً شرسة لتحرير الأرض. كان واضحاً أن السادات على وشك تغيير الوزير واختيار إسماعيل فهمي، الذي ظهر أنه يعتمد عليه بشدة في هذه الأثناء. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل كان الوزير الزيات يعلم بموعد حرب أكتوبر قبل سفره إلى نيويورك؟ وهل كان في الصورة بالكامل من الاتصالات السرية بين السادات وكيسنجر؟ أنا أعتقد بأن الوزير لم يكن يعلم بموعد بدء القتال، كما أنه لم يكن في الصورة بالكامل من الاتصالات السرية.. لماذا؟ لأن بناء الإدارة المصرية وتوجهاتها ـ خلال هذه الفترة ـ لم يكن يهتم بأن ينفق وقتاً كافياً لوضع وزير الخارجية في الصورة، خصوصاً أن وزيراً آخر (هو الوزير القادم إسماعيل فهمي) أصبح قائماً بأعمال وزير الخارجية الموجود في نيويورك لتمثيل مصر في المعركة الدبلوماسية التي كانت قد بدأت بالفعل، وخاصة عند الاحتياج إلى وقف إطلاق النار أو إلى دور ما، إلا أنني أعتقد أيضاً أن الاتصال الوحيد كان يتم من حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي ليضع الزيات في الصورة تليفونياً!           توارد الأفكار مع السادات .. فتح الحوار مع إسرائيل مضت الأيام بعد فض الاشتباك الثاني في سبتمبر/ أيلول من سنة 1975، رتيبة، وساطات كثيرة بيننا والجانب «الإسرائيلي» من دون فائدة أو تقدم يذكر. في هذه الأثناء – أو بعدها بقليل – لاحظت التوتر يتسلل إلى الوزير إسماعيل فهمي. بدأ الرجل يشعر بصورة أو أخرى بأن الرئيس يرتب لشيء ما من وراء ظهره، ومن هنا بدأت ظلال من الشك بين الرئيس ووزير خارجيته منذ أواخر 1976 وأوائل 1977. بدا  أن مفرق طرق قادم في العلاقة بين الرجلين يلوح من بعيد. جاء موعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول  1977،  سافرت ضمن وفد مصر مع الوزير فهمي. في هذا الوقت.. ونحن في الجمعية العامة ترسخت في نفسي قناعة نتيجة للمتابعة الدقيقة لمجريات الأمور مفادها بأنه لا فائدة من كل الوساطات التي تتم بيننا وبين «الإسرائيليين»، سواء من اللجنة الرباعية، التي كانت ترفع تقارير إلى السكرتير العام للأمم المتحدة، أو تلك التي يقوم بها الأمريكيون مع السادات، وغيرها، وأنه لا سبيل إلا بالتفاوض المباشر مع «تل أبيب». كان التفكير بهذه الطريقة عن لقاءات مباشرة مع «الإسرائيليين» في هذا الوقت المبكر بعد حرب شرسة دارت على جبهة قناة السويس ضرباً من المجازفة غير المحمودة إذا تمت المجاهرة به، لكنني كدبلوماسي محترف قرأت الواقع فوجدت أننا نسير في حلقة مفرغة، وما دمنا قد أدينا واجبنا بكفاءة نادرة على جبهات القتال فإنه آن للدبلوماسية أن تخوض معركتها وجهاً لوجه كما تحرك السلاح وجهاً لوجه.     قناعات بالتفاوض المباشر مع الإسرائيليين أول من عبرت له عن قناعتي بضرورة التفاوض المباشر مع «الإسرائيليين»، السفير محمد إسماعيل، (السكرتير الثالث في ذلك الوقت) نجل المشير أحمد إسماعيل، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المصرية، إبان حرب أكتوبر. كان إسماعيل عضواً في بعثة مصر بالأمم المتحدة، وفي يوم من أيام وجودنا في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة دعوته لأن يمشي معي في حديقة الأمم المتحدة لنسري عن أنفسنا ونتحدث في بعض الأمور. كان يستعد للسفر إلى القاهرة لتوصيل رسالة يداً بيد من إسماعيل فهمي إلى السادات عن انطباعات الوزير ونتائج اتصالاته والإعداد للقاء كارتر. سألني إسماعيل عن رأيي في مسار التفاوض مع «الإسرائيليين» بعد أن سكتت المدافع على الجبهة. قلت: «يا محمد كل ما نقوم به بلا جدوى.. لابد من اتصال مباشر الآن بيننا وبين «إسرائيل». أرى أن نطرح هذا الأمر للمناقشة في وزارة الخارجية وعلى مستوى صناعة القرار في الدولة بكاملها. الأمور يا محمد وصلت إلى نقطة الصفر. ما نسمعه من السكرتير العام للأمم المتحدة فالدهايم (كلام فاضي)، وما نسمعه من الأمريكان (كلام غير واضح في منطلقاته وغير مضمون في نتائجه) وما نسمعه من السوفييت لن يؤدي إلى شيء؛ ولذلك لا أرى فائدة لـ(القومسيونجية) أي السماسرة، إذا كانت الأمور على هذا النحو دعونا نتفاوض بشأن أراضينا مباشرة مع «الإسرائيليين».         من المفارقات أن ما كان يدور في ذهني في هذه الفترة كان هو ما يدور في عقل الرئيس السادات، وطبعاً لم تكن هناك أي لقاءات أو أحاديث جرت مع الرئيس في هذا الشأن، فموقعي في وزارة الخارجية لم يكن يتيح لي الالتقاء به، لكن يمكن اعتبار ذلك نوعاً من توارد الخواطر بين رجلين.. كل بقدر طبعاً. كان تفكيري منصباًَ على تواصل ما لأجهزة الدولة المصرية مع نظيرتها «الإسرائيلية» للبحث عن حلول، أو ربما على مستوى دبلوماسي مؤهل على أقصى تقدير، لكن الرئيس السادات أخرج أفكاره في شكل درامي مبادرة للسلام، وزيارة إلى القدس، وهو الذي لم يخطر في بالي رغم توارد الأفكار بشأن الحوار المباشر.     محاولات تهميشي بالوزارة في 25 ديسمبر/ كانون الأول  1977 تم تعيين السفير محمد إبراهيم كامل وزيراً للخارجية، وهو المنصب الذي ظل شاغراً منذ استقالة إسماعيل فهمي في 18 سبتمبر / أيلول من نفس العام. مع تولي الوزير الجديد منصبه بدأ بتهميش كل من اعتبرهم رجال إسماعيل فهمي في الوزارة. وكنت بالطبع واحداً منهم؛ وبالتالي لم أكن ضمن المجموعة التي شاركت في مفاوضات كامب ديفيد. لم يقتصر الأمر على استبعادي من المشاركة في هذه المفاوضات المصيرية، بل جرت محاولات لإبعادي من منصبي مديراً لإدارة الهيئات الدولية. جاءني المرحوم عبد المنعم غنيم، وكان العضو الأقدم في مكتب الوزير ناقلاً إليّ عرضاً لأكثر من منصب، منها: قنصل مصر في سان فرانسيسكو، والقائم بالأعمال في أيرلندا. حاولوا تزيين هذه الأماكن في عيني، لكنني رفضت بشدة. الأشهر التسعة التي قضاها إبراهيم كامل في الوزارة كانت من أصعب الفترات التي عرفتها في مسيرتي المهنية حتى ذلك التاريخ. كان هناك نوع من الغيرة القاتلة تجاهي من المجموعة المحيطة به فأوغروا صدره ضدي، لكني بكل ما أستطيع حاولت تجنب سهامهم.       في هذه الأثناء دار حوار بيني وصديقي أحمد أبو الغيط، الذي كان يعمل معي في إدارة الهيئات الدولية، وكان مطلعاً على الأمور الخاصة بسياسة التضييق علي من قبل المحيطين بالوزير. حدثني أبو الغيط مؤيداً السياسة التي اتبعتها مشيراً إلى «نظرية الانسحاب والعودة المظفرة للشخصية التاريخية» «withdraw and return of the historical figure» للمؤرخ البريطاني الشهير «أرنولد توينبي»، التي وردت في كتابه «دراسة للتاريخ». قال لي أبو الغيط: «بموجب هذه النظرية فإن انسحابك من المسرح ضروري انتظاراً لعودتك مظفراً مرة أخرى.. إن لك مستقبلاً باهراً؛ ولذلك عليك بمقاومة الهجوم عليك بالانسحاب من المسرح لفترة، ثم اشحذ همتك وجهز نفسك وقدراتك لعودة مظفرة»، وقد كان.. انتهت فترة التضييق باستقالة إبراهيم كامل عشية التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد، يوم 16 سبتمبر/ أيلول  1978. بعدها استقل بطرس غالي، وزير الدولة للشؤون الخارجية بالوزارة. كان غالي شخصية إيجابية وطنية حرفية، وكثير الاطلاع في الفلسفة والأدب والموسيقى وغيرها، وفي الوقت نفسه كان السادات يأنس إليه، فوضعه كوزير للدولة للشؤون الخارجية.       عين مصطفى خليل رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1978، قبيل مباحثات «بلير هاوس». قال خليل لبطرس: «أنا وزير الخارجية من برَة فقط، وأنت يا بطرس الوزير الفعلي»، وعندها بدأ غالي البحث عن فريق قوي يعمل معه. هناك من نصحه بالاعتماد على عمرو موسى، وذكره بأن إسماعيل فهمي يعتمد عليه في أمور كثيرة مهمة حتى أنه عينه استثنائياً مديراً لإدارة الهيئات الدولية، رغم أن درجته لم تكن تسمح بذلك. ومنذ هذه اللحظة بدأ يعتمد عليّ بشدة، خاصة في الحرب الدبلوماسية ضد الدول العربية التي حاولت عزل مصر بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع «إسرائيل».

مشاركة :