جرى تحريم تداول المادة السردية التي كانت تروى شفاهيا لتقاطعها مع الإيمان بالدين الجديد، وساعد على اختفائها من الذاكرة العربية خضوع المدونين العاملين في إدارة الدولة الجديدة لشروط المؤسسة السياسية.العرب لطفية الدليمي [نُشر في 2017/09/13، العدد: 10750، ص(14)] من المقولات الشائعة -التي طالما تعاملنا معها باعتبارها من المأثورات الشعبية- مقولة “الشعر ديوان العرب” وهي مقولة تنطوي على تأكيد لغلبة الصوت العالي والعاطفة الجياشة اللحظية البعيدة عن ضوابط الكتابة المُعقلنة، تلك التي لا تجنح إلى الاستجابة الفورية بل تحاكم الفكرة وتعيد النظر فيها من أوجه عدة. يؤكد الدكتور عبدالله إبراهيم في “موسوعة السرد العربي” بأن العرب ساردون مميزون قبل أن يكونوا مجرد أصوات شعرية حماسية، ويقدم أدلته على أطروحة علاقة العرب بالسرد فيقول “لم يشكّل الشعر في حياة العرب غير هامش ضيق مقارنةً بالسرد الذي أجرى تمثيلاً كبيراً للخيال العربي والإسلامي، لقد تنادت لقول الشعر فئة تريد الانتفاع بضرب من القول في صيغ المدح أو الهجاء أو الرثاء أو الغزل، وكانت تنتظر المكافأة في الغالب وفيها تصنّع ظاهر باستثناء عددٍ من الشعراء الذين انطوت فكرة الانتفاع لديهم تحت غطاء الصنعة الباهرة”. لعلنا لو تفحصنا المعلقات وسواها من موروثنا الشعري لوجدناها غير معنية بواقع الحياة الاجتماعية والروحية العامة، أما السرد فقد شمل حياة الأمة -بدءاً من أوابد العرب في الجاهلية، مرورا بأيامهم وأحاديثهم وأخبارهم وتواريخهم، وصولاً إلى مروياتهم التي شملت الحكايات والخرافات والسّير الشعبية، ومدوناتهم التي مثلتها مقاماتهم وعددها يربو على ألفي مقامة، وصولاً إلى الرواية الحديثة التي قدمت تمثيلاً شاملاً عن أحوال العرب. يرى الدكتور ابراهيم “أن الشعر أخفق تماما في ذلك، فانحسر، وانهارت قيمته، وبالإجمال ما انتظر رواة السرد انتفاعاً بل رغبة في الاعتراف على نقيض ما سعى معظم الشعراء إليه… “. نعلم أن الرواية الغربية جاءت استجابة لضرورة تخليق نمط إبداعي قادر على التعامل مع المستجدات التي حصلت بعد عصر النهضة الأوروبية والتنوير وعقب ثورات الحداثة التي طالت العلم والتقنية وأنماط الحياة وطبعتها بطابع الحراك الثوري في نزوعه للتغيير المستديم، أما في بيئتنا العربية فقد اختلف الأمر فلم يقابل السرد العربي بالترحاب والاحتفاء بل قوبل بالتعنت والتزمت منذ صدر الإسلام لأسباب نعرفها جميعا وهي أن السرد لم يمتثل لشروط المؤسسة الدينية والسياسية، ومن هنا غياب المأثورات السردية المتحدرة من العصور الجاهلية والتي عدت من “أساطير الأولين” واعتبرت من الأنشطة المرذولة بعد ظهور الإسلام. وجرى تحريم تداول المادة السردية التي كانت تروى شفاهيا لتقاطعها مع الإيمان بالدين الجديد، وساعد على اختفائها من الذاكرة العربية خضوع المدونين العاملين في إدارة الدولة الجديدة لشروط المؤسسة السياسية فامتنعوا عن تدوينها. يخبرنا الدكتور عبدالله ابراهيم أن أول رواية كتبها العرب كانت قبل تعرّفهم على الرواية الغربية المترجمة وذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر فيقول في موسوعته السردية “ظهرت الرواية العربية قبل معرفة العرب بالرواية الغربية وقبل شيوعها في أوساطهم، وهي نتاج تحلّل الأشكال السردية القديمة وانبثاقها مجدّداً في شكل الرواية، ظهر هذا المخاض في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وفي منتصفه ظهرت أول رواية عربية، وهي ‘وي. إذن لست بإفرنجي’ لخليل خوري في بلاد الشام سنة 1859 وفيها يتضح البناء السردي للرواية وبناء الشخصيات، والموضوع والحبكة، ثم شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور عشرات الروايات تركز معظمها في بلاد الشام قبل ظهور رواية ‘زينب’ لمحمد حسين هيكل في 1914”. كاتبة عراقيةلطفية الدليمي
مشاركة :