ينتمي الشاعر محمد سليمان إلى جيل السبعينيات، ذلك الجيل المتهم بأنه لم يؤثر في الأجيال التالية له، ولكنه تميز بانفتاحه على قصيدة النثر، غير أن قصيدة سليمان لا تنطوي تحت تصنيف محدد بل اختار حسبما يقول «طريقاً خاصاً، وهو ابتكار نغمات جديدة، تعتمد على مزج تفعيلات البحور». ورغم قلة إصدارات سليمان، فإنه يكتب كثيراً، ويشطب كثيراً، ويمزق الأوراق كثيراً. التقته «الجريدة» في هذا الحوار وتحدث عن تجربته الخاصة، وأعماله، ورؤيته لتجارب شعراء جيله، ومدى إسهامهم في الحركة الشعرية. تنتمي جيلياً إلى حقبة السبعينيات، ويقال إن تجربة هذا الجيل لم يبق منها شيء، واستنفدت أغراضها. ما رأيك؟ أرفض هذا الكلام، وأرى أنه يحمل ظلماً كبيراً للشعر السبعيني. لم تكن لدى هذا الجيل أية أغراض، ونحن كنا ندعي أيضاً في السبعينيات أننا لم نتأثر بالرواد ولم نستفد منهم وكنا نتمرّد عليهم، ونرفض إبداعهم. وأظنّ أن الوقت حان كي يتمرّد علينا الشعراء الجدد. أنتظر دائماً من الشعراء الجدد قصائد مختلفة ثائرة ومتمردة على ما كتبناه لنثري الحركة الشعرية، وأود هنا القول إن الشاعر يقدم تجربته الشعرية وربما يكرِّر نفسه أحياناً من نص إلى آخر. لكن ذلك ليس معناه أنه لا يقدم الجديد لأنني مثلاً قدَّمت أكثر من سبعة دواوين شعرية كل منها مستقل تماماً عن الآخر، ولكل ديوان أداء فني مختلف. قصيدة النثر ما رأيك في قصيدة النثر، والمشهد الشعري الراهن؟ قصيدة النثر موجودة، وظهرت مع قصيدة التفعيلة في أواخر الأربعينيات. علينا أن نتذكر أنها في البداية كانت تنُشر تحت عنوان «شعر منثور»، ثم جاء محمد الماغوط الذي استطاع أن يسمي كتابته قصيدة نثر، وقُدم لمجلة «شعر» في أواخر الخمسينيات كشاعر نثر وأصبحت القصيدة معترفاً بها، وتأسس تيار لها. كذلك قدمت «شعر» اللبنانية شعراء كثيرين في الستينيات. إذاً، قصيدة النثر موجودة ولكن المشكلة هي الوقوع في غواية السرد والتفاصيل. ثمة أمور كثيرة على القارئ أن يغربلها، فغواية التفاصيل تتعب نص الشاعر، وعلى الأخير أن يعرف أن عليه أن ينشغل بالجوهري والأساسي ويطرد من نصه كل ما يثقله. لكن البعض يرى أن قصيدة النثر كانت البوابة الرئيسة التي تسللت من خلالها أصوات غير موهوبة. طبعاً، رأينا في الخمسينيات والستينيات شعراء كثيرين تحولوا لاحقاً من الشعر إلى فنون أخرى كالقصة والرواية وحتى النقد، لأنهم اكتشفوا بمرور الوقت أن موهبتهم الشعرية محدودة. وبسبب قصيدة النثر وبركاتها انقلب الوضع، ثمة اليوم من يتحوّلون إلى الشعر وإلى قصيدة النثر من عوالم مختلفة، لأنهم يتوهمون بسهولة كتابتها، في حين أن هذه القصيدة بالغة الصعوبة، وبحاجة إلى شاعر قدير شأنها في ذلك شأن القصائد كافة. لكن ثمة جيوش تكتب قصيدة النثر سواء الموهوب أو غير الموهوب المدعي، ومن يكتب بسبب سهولة النشر، من ثم اختلط الحابل بالنابل، وضاع الشاعر الحقيقي، ولم يعد الموهوب قادراً على السباحة الآن. وعلينا أن نشير إلى مشكلة التقاعس النقدي وغياب النقد الحقيقي الذي يقود ويوجه ويساند، بينما سادت المجاملات والعلاقات، من ثم تراجع دور النقد لتظهر الفوضى الشعرية التي نشهدها. كتب أبناء جيلك قصيدة النثر. لماذا لم تفعل مثلهم؟ لأنني اخترت طريقاً خاصاً بي، وهو ابتكار نغمات جديدة، تعتمد على مزج تفعيلات البحور. منذ ديواني الأول لم تكن لديَّ مشكلة حاولت أن أصنع نغماتي الخاصة، وأظن أنني نجحت في ذلك، فلم أجد نفسي محاصراً بالتفعيلة. رغم كونك ضد شعر المناسبات، فإن ديوانك الأخير «كالرسل أتوا» يدور في هذا المجال؟ بالتأكيد أنا ضد شعر المناسبات، وعلى هذا الأساس لا ينطبق ذلك على قصائدي هذه. ترصد قصائد المناسبات التحولات وانعكاسها على الذات، وكل شعر يبتعد عن الذات ليس شعراً جيداً، لأن في ذلك ابتعاداً عن الشعر. من ثم، انعكاس الثورة في داخلي هو ما أردت التعبير عنه، لذا هذه القصائد ذاتية وليست قصائد مناسبات، وهي رصد تحولي للثورة داخلي ورؤيتي لما يحدث في الشارع وإحساسي العميق بأن الثورات تُسرق غالباً، حيث يقوم بها الثوار ثم يمضون في حال سبيلهم، لأنهم ينطلقون من الصالح العام وليس من أجل مغانم أو مكاسب خاصة. لكن ثمة الانتهازيون الذين يقفزون عليها. عنوان الديوان «كالرسل أتوا»، وأتحدث في آخر قصائده عن الثوار. أصوات كنت أحد المؤسسين لـ «جماعة أصوات». ماذا عنها، ولماذا توقفت؟ أسهمت في تأسيس «جماعة أصوات» عام 1976، وكنت أرى أن لكل جماعة شعرية عمراً محدداً، وعليها أن تختفي بعد انتهائه. على الجماعة الشعرية أن تقدم بعض الوجوه الشعرية لأعضائها، لكن على كل شاعر بعد ذلك أن يسبح ويعتمد على جناحيه كي يطير، والعاجز أو غير الموهوب لا بد من أن يتوارى. توارت جماعات شعرية كثيرة أو قدمت شاعراً واحداً مثل «جماعة دايوان» عام 1922، التي أطلقت عبد الرحمن شكري، وكان من أعضائها العقاد والمازني، وهما ناثران أكثر من كونهما شاعرين، وعلى مدار التاريخ نجد جماعات أدبية تقدم لنا في النهاية عدداً محدوداً من الرموز الفنية والإبداعية، أما الأعضاء البقية فيتوارون. يأخذ عليك البعض كونك من حماة الوزن. ما ردك؟ لا بالطبع، لديَّ قصائد عدة فيها مقاطع نثرية، كذلك أصدرت ديواناً كاملاً خرج عن الوزن وهو «تحت سماء أخرى»، ولكني أخرج عن الوزن بصورة مختلفة عن قصيدة النثر، أصنع نغمة جديدة تعتمد على المزج بين أكثر من بحر. ثمة دوائر عروضية لثلاثة بحور تمتزج وتشكل نغمة جديدة سائدة لديَّ، ومن يقرأ معظم دواويني يجد أنني لا أتقيد بالتفعيلة الأولى، فالوزن والعروض في المرتبة الثانية، والقصيدة هي التي تختار شكلها. أقول في إحدى قصائدي القديمة: كن شاعراً واختر لمائك ما تشاء من الأواني كن شاعراً أولاً.. كن موهوباً... كن قادراً أما أن تكتب شعراً موزوناً ورديئاً لا قيمة له، أو أن تكتب خواطر نثرية وتنظمها فذلك مرفوض، وعلينا أن نعترف بأن الرموز كافة التي قدّمها الواقع الشعري حتى الآن هي رموز موزونة تجيد الوزن، قادرة على تشكيل قصائد بأشكال متعددة وبإيقاعات ونغمات معروفة وملموسة. الوزن يُعاد اختراعه باستمرار ولا وجود للشعر العمودي أو التفعيلي أو النثري في القصائد الجيدة، لأن الشكل أساساً تابع للموهبة، وعندما تكون الأخيرة قادرة تستطيع أن تعيد صياغة الشكل باستمرار والإضافة إليه، من ثم نحن نتحدث دائماً عن الشاعر الذي تخونه موهبته. نص واحد وبحور متعددة يرفض الشاعر محمد سليمان آراء تقول إن قصيدته تكُتب في بحر شعري واحد منذ البداية، ويرى أن هذه تهمة لا دليل عليها، مشيراً إلى ديوانه الأخير «كالرسل أتوا»، ويقول: «تتعدد فيه الأوزان، كذلك في دواويني كافة. ثمة طبعاً بحر أكثر دوراناً، وكل شاعر لديه بعض البحور الأكثر دوراناً في شعره، وهو أمر طبيعي ومقبول في الشعر. أما أن يكتب شاعر في بحر واحد فهذه تهمة لا بد من التدليل عليها». ويضيف: «ربما أكتب ديوانين في وقت واحد، لأني عندما أكتب أعرف أن جو هذه القصيدة العام يختلف عن القصيدة الأخرى التي كتبتها، فأعلم أنني سأكتب في سياق آخر نصاً شعرياً مختلفاً. أكتب القصيدة عادة على مدى سنوات، وهي تتشكل من مقاطع، من ثم هي نص طويل. معظم الدواوين في حقيقة الأمر قصيدة واحدة، لذلك أنا في مأزق، إذ لا أستطيع إصدار مختارات شعرية. أكتب في كل ديوان بشكل أو بآخر نصاً طويلاً يتشكل من مقاطع صغيرة وعناوين فرعية مختلفة الأوزان أحياناً، لكنه في النهاية ربما يشكل نصاً واحداً».
مشاركة :