خرج شعراء مصريون من مؤتمر عنوانه «قصيدة النثر المصرية... في الإبداع متسع للجميع»، بخيبة أمل في ما يخص آفاق هذه القصيدة. فالمؤتمر الذي استمر ثلاثة أيام في «أتيليه القاهرة»، حفل بممارسات ونقاشات تنطوي على مزيد من الروتينية والجمود والوصاية والاستبعاد، وبدا المشهد مألوفاً ومعاداً ومنافياً لسنّة التغيير في بلد خاض شعبه «ثورتين» ضد حكم الرجل الأوحد. جاء ذلك في مقابل إتاحة مساحات أقل - بل نادرة - لوضوح الفكرة والهدف واستيعاب أفكار «ثوريّة» هي من طبيعة قصيدة النثر مثل التمرّد والتجديد والاستقلالية، ما جعل المؤتمر «المستقل» أقرب إلى بيروقراطية مؤتمرات الدولة. يتكرّر الحديث في مصر عن قصيدة النثر بوصفها تعيش «أزمة» وتعاني «اضطهاداً». وكان الوسط الأدبي شهد في السنوات الأخيرة من حكم حسني مبارك ووزير ثقافته فاروق حسني محاولات شعراء قصيدة النثر المصريين مواجهة ما رأوه استبداداً من لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة وتجاهل لمنجزهم الشعري باعتباره خروجاً عن قواعد الشعر المألوف وشروط القصيدة «الرصينة». ثم كانت مؤتمرات الشعر «البديلة» مخيبة للآمال، إذ شغلتها الانقسامات، فيما هي تعجّ بدراسات كُتبت على عجل وأحاديث جانبية، ومصادرة، وخلافات، ومناوشات الصوت العالي، ولا مانع من مفارقات مضحكة أحياناً، أثارها تعليق شاعر في إحدى أمسيات المؤتمر الأخير بأنه يؤمن بـ «موت المؤلف وموت القارئ»، وعليه لا يبقى لقصيدة النثر إلا «الناقد» مسؤولاً عنها! آراء كثيرة اتفق بعضها على أن أزمة قصيدة النثر من خارجها، وهي غياب نقد أدبي وثقافي عام، وقاوم جميعها بلورة رؤية واعية تعرّف الأزمة وتضع منهجاً يضمن لقصيدة النثر المصرية وضعاً يتناسب طردياً مع حجم الصدارة والسعة في النشر اللذين تتمتع بهما الآن. الجديد في هذا المؤتمر الذي تنكّر منظّموه وفي مقدمهم منسّقه الشاعر عادل جلال للمساعي السابقة عليه في هذا الشأن، إشارة بعض الأصوات إلى منحى جديد للأزمة يتمثل، على حد تعبير الشاعر والمترجم أحمد شافعي، في كونها «أزمة نوع». يرى شافعي أن ثمة جهداً غير مفيد وكافٍ للتعريف بقصيدة النثر، وأن نسبة كبيرة من المنجز العربي الحالي للقصيدة المتحررة من القوافي والأبيات متصل تماماً مع تراثنا هو أقرب إلى «الشعر الحر» منه إلى قصيدة النثر بشروطها الغربية أو كما تكتب في الشعر الإنكليزي مثلاً، حيث تستخدم النثر كما يستخدمه كاتب المقال. ويضيف: «لدينا إصرار على قصيدة نثر مبتورة من جذورها العربية ترتكن إلى حساسية فردية لشاعر أو ظرف تاريخي عابر، قصيدة غير موجّهة إلى العالم ورسالتها غير واضحة، محيّرة بألغازها وحالتها الهجينة». ويرى شافعي أن المؤتمر مخيب للآمال «لأنه مستقل»، موضحاً أن «المرء ينتظر من عمل مستقل أن يكون أكثر طموحاً وجرأة وتفكيراً خارج الصندوق، مقارنة بما تقيمه وزارة الثقافة من مؤتمرات». شهد المؤتمر ثلاث جلسات نقدية فقط، والكثير من القراءات الشعرية، وهو ما كان محل انتقاد بعض الحضور، الذين رأوا أن المناسبة كان يمكن أن تخرج في شكل أفضل في حال خرج المشاركون فيها إلى حلقات نقاش في مكتبات وسط البلد. ولكن بدت آراء كهذه، مجرد ظلال مقارنة بأضواء سلطت على أبحاث منهجية مغرقة في التخصص، وكلمات فقيرة انشغلت بالمؤتمر وأمور التنظيم وأنطولوجيا مطبوعة على غلاف مجلّد والشكوى من تخلي الشباب عن الفكرة، فكان المؤتمر هو الطموح في حد ذاته وليس قصيدة النثر. الشاعر جمال القصاص طرح تعليقاً أكثر صدامية لم يحرّك في الحضور أي ساكن، قال إن ثلاثة أرباع ما يكتب في قصيدة النثر لا ينتمي إلى الكتابة أساساً. وأوضح القصاص لـ «الحياة» أن قصيدة النثر العربية محاصرة بـ»العشوائية»: «لم تستطع أن تكون هامشاً ثورياً بحق، احتمت بفكرة الاستبعاد، ولما أصبحت بالفعل في صدارة المشهد لم تكرس إلا إلى المشاعية، أصبح كل من كتب سطرين شاعراً». مأزق قصيدة النثر المصرية من وجهة نظر القصاص يتمثل في نقد هزيل ومنتج لا يؤسس لخصوصيته ولا يلتفت إلى تراثه في انحراف واضح للمنجز الغربي. الشاعرة جيهان عمر التي تضمن البرنامج مشاركتها بالقراءة ولم تحضر تؤكد أنها وافقت على المشاركة في المؤتمر وتثمّن فيه «مجهوداً يبذل من أجل الشعر»، وقالت لـ «الحياة»: «لا أحب الالتفات إلى سلبيات، التجربة في بدايتها، ومجرد القراءة وحضور الجمهور لسماع الشعر يعدان من الأمور الإيجابية في ظل الأجواء الضبابية التي نحيا في ظلها الآن». من جانبه يرى الشاعر عاطف عبدالعزيز أن الحديث عن قصيدة النثر يستلزم دائماً صيغة الدفاع عنها وكأنها «متهّم»، أما هو فيفضّل الحديث عن «قصيدة نثر لا تريد إلا نفسها، تعاني من محنة نقد يريد أن يضعها في قفص يلائم تصورات الناقد فقط». شعراء قصيدة النثر في مصر ما زالوا يبحثون عن الاعتراف، مأخوذين بطموحات تضل طريقها في التنفيذ المنظّم، والمبادرات المبذولة من أجل التحقق مشتتة ومتفرقة بين فرق عدة. ففي الوقت الذي يعِد منظمو مؤتمر هذا العام بإقامة دورة ثانية بحلول منتصف 2015؛ ستشهد الإصدار الثاني من «أنطولوجيا قصيدة النثر المصرية». يحدث ذلك بعد مرور أكثر من 9 سنوات على الأنطولوجيا التي أصدرها الشاعر المصري عماد فؤاد من الجزائر تحت عنوان «رعاة ظلال... حارسو عزلات أيضاً»، وهي مخصصة أيضاً لقصيدة النثر في مصر، ويتوقع أن يصدر الجزء الثاني منها قريباً بمقدمة للشاعر رفعت سلاّم، ويضم أكثر من 45 شاعراً وشاعرة من ثلاثة أجيال تحت عنوان «شقائق نعمان زرقاء»!
مشاركة :