في مذكرات عمرو موسى: قصة تعييني وزيرا للخارجية..و«عمر سليمان» كان منزعجا من التوريث

  • 9/15/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

في الحلقة الخامسة من الجزء الأول، من مذكرات السياسي العربي البارز ،عمرو موسى، يكشف تفاصيل قصة تعيينه وزيراً للخارجية، وجهده في إعادة هيكلة الوزارة، وعلاقته مع بطرس غالي قبل رحيل الأخير لتولي منصب الأمين العام للأمم المتحدة، كما يتحدث في الحلقة عن علاقته باللواء عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة الأسبق.             قصة اختياري وزيرا للخارجية ويقول موسى: أعتقد أن أدائي خلال القمة العربية الطارئة التي انعقدت في 10 أغسطس/آب 1990 في القاهرة؛ بسبب الغزو العراقي للكويت، رسّخ اقتناع الرئيس مبارك باختياري لتولي منصب وزير الخارجية، وأعتقد أنه تابعني أو اختبرني قبل ذلك بفترة، فبعد انتهاء هذه القمة تأهبت للعودة لنيويورك باعتباري مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة، لكن رئاسة الجمهورية طلبت مني البقاء لعدة أيام بناء على تعليمات من الرئيس شخصياً، فبقيت من دون أن أعرف السبب، ثم قالوا لي بعد عدة أيام بإمكانك السفر، فغادرت في اليوم التالي. حكى لي الدكتور مصطفى الفقي، وكان وقتها سكرتير الرئيس للمعلومات، أن مبارك في هذه الأثناء فكر في تعييني وزيراً للخارجية؛ لكن تداعي الأحداث في الشرق الأوسط بعد غزو العراق للكويت، أدى به لأن يرى أنه من غير المناسب استبدال وزير الخارجية في ظل هذه الظروف العصيبة، وإن كان قد استقر على عمرو موسى ليخلف عصمت عبد المجيد في وزارة الخارجية. صباح يوم 25 إبريل/نيسان 1991، وبينما كنت مستغرقاً في قراءة صحيفة «نيويورك تايمز» رن الهاتف. كان على الجهة الأخرى الدكتور عصمت عبد المجيد وزير الخارجية، الذي كان يستعد لتبوؤ مقعد الأمين العام لجامعة الدول العربية، التي عادت إليها مصر، بعد تعليق عضويتها، إثر توقيع اتفاقية السلام مع «إسرائيل» سنة 1979، وبعد أن استقال أمينها العام آنذاك الشاذلي القليبي. بعد التحيات طلب مني الوزير أن أنزل مصر فوراً.     لم أسأل الرجل عن سر ذلك الاستدعاء المفاجئ. بعد وصولي، صباح اليوم التالي، بفترة وجيزة تلقيت مكالمة من جمال عبدالعزيز السكرتير الخاص لرئيس الجمهورية. قال فيها «الرئيس يريد مقابلتك بمنزله في التاسعة من صباح باكر». توجهت في الموعد المحدد، وجدت مبارك جالساً في حديقة منزله في مصر الجديدة، وأمامه عدد من الصحف العربية والمصرية. رحب بي. طلب قهوة سادة، ودعاني لاحتساء مشروب معه، فقلت للنادل: «قهوة سادة أيضاً». سألني الرئيس عن بعض الملفات المرتبطة بطبيعة عملي كمندوب دائم لمصر في الأمم المتحدة، كنوع من التسخين قبل الدخول في صلب الموضوع الذي استدعاني لأجله. أعطيته تقارير وافية، وإن مختصرة ومركزة، عما سألني عنه فجأة ومن دون مقدمات قال: «اسمع يا عمرو.. لقد قررت تعيينك وزيراً للخارجية». قلت له: أشكرك يا سيادة الرئيس على هذه الثقة. – قال: بعد عودتي من جولة أوروبية سنجري تعديلاً وزارياً، وستصبح وزيراً للخارجية. شكرت الرئيس على ثقته، وشربت القهوة ثم غادرت منزله، وأنا استغرب هذا الهدوء الذي اعتراني ورئيس الجمهورية يخطرني باختياري وزيراً للخارجية، وكأنني لم أندهش أو كنت متوقعاً ذلك، ثم بدأت أفكر في هذا التطور الخطر في حياتي وفي مسار عملي؛ لكني في الوقت نفسه كنت أعي تماماً أن ما قاله لي بشأن تعييني وزيراً للخارجية قد يتغير بين عشية وضحاها، جرّاء تدخل من هنا أو هناك؛ ولذلك كان عزمي أكيداً على العودة إلى نيويورك لمتابعة عملي.         مبارك : «تعال ونبقى نشوف» !! مضى أكثر من أسبوع على مقابلة الرئيس، وأنا منهمك في عملي بالأمم المتحدة بعد عودتي إلى نيويورك. احتاج الأمر أن أعرض عليه تطورات مرتبطة بملف «المنطقة الخالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط»، وكان مبارك يوليه اهتماماً، فاتصلت مباشرة بمكتبه. أوصلوني به. بعد الترحيب، والحديث في الملف سبب المكالمة، سألته عن التوقيت الذي يري أن أكون فيه بالقاهرة، اتصالاً بما دار بيننا في منزله قبل عودتي لنيويورك، فقال: «تعال ونبقى نشوف».     انتابتني مشاعر متناقضة بعد انتهاء هذه المكالمة. استوقفتني عبارة «تعال ونبقى نشوف». من ناحية، كنت سعيداً بأن احتمالات بقائي في نيويورك باتت كبيرة بعد سماعي هذا الرد غير الحاسم من الرئيس في أمر تعييني وزيراً للخارجية، خاصة أن «تعال ونبقى نشوف» عبارة أشعرتني بأن الرجل يعطي لنفسه خطاً للتراجع عما قاله لي في حديقة منزله قبل أيام. كانت هذه طريقته، يفكر في أكثر من ثلاثة أو أربعة أسماء، وربما يوهم مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، كلاً منهم أنه القادم لهذا المنصب أو ذاك، وعندما يتم الإعلان عن اسم من وقع عليه الاختيار، يجد سعادة بالغة في تلك الحيرة التي وقع فيها بقية المرشحين، وأن أحداً لم يعلم بنواياه من الوزراء أو الإعلاميين أو غيرهم. رحت أحلل وأفسر «تعال ونبقى نشوف»؛ فوجدت شطرها الأول يقول «تعال» يعني لابد أن أعود إلى مصر، فتحدثت إلى عصمت عبدالمجيد، وتناقشنا في بعض الموضوعات الخاصة بالعمل، ثم في نهاية المكالمة قلت له: «احتمال أحتاج أنزل مصر خلال الفترة المقبلة يا سيادة الوزير.   قال: تعالى.. تعالى يا عمرو. قلت: متى؟ قال: تقدر تيجي بكره».           ويبدو أن نقاشاً دار بين الوزير والرئيس، وفيه تم حسم أمر تعييني وزيراً للخارجية.. هكذا قدرت، وإلا كان الوزير قد عارض أمر عودتي للقاهرة، أو كان قد سألني عن سبب العودة الآن على أقل تقدير. في اليوم الثالث من عودتي إلى القاهرة (20 مايو/أيار 1991)؛ إذ بالهاتف يرن في تمام الثامنة صباحاً. كان على الناحية الأخرى، جمال عبدالعزيز سكرتير الرئيس مبارك. «باستغراب شديد وجدته يقول: أنت مجتش الرئاسة ليه؟، ده حلف اليمين بعد قليل.   قلت: معقول، أنا لسه في بيتي. قال: طيب خلال ساعة بالكتير تكون وصلت أرجوك». حتى هذه اللحظة كنت ما زلت في سريري. نهضت بسرعة البرق. حلقت ذقني، وأخذت «دوشاً». قررت أن أذهب إلى الرئاسة بسيارة تاكسي؛ لأنني كنت قد طلبت من سائقي الحضور في الساعة العاشرة، لكن بمجرد نزولي وجدت السيارة في انتظاري؛ لأن السائق جاء قبل موعده، فحمدت الله على هذا الحظ الجيد؛ لأنني كنت سأجد صعوبة في دخول رئاسة الجمهورية بتاكسي.   قال لي هذا السائق المخضرم: على فين؟، قلت على رئاسة الجمهورية. وصلت فوجدت رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقي فرحب بي، وعبر عن سعادته بعملي معه وانضمامي لحكومته، وكانت هذه المرة الأولى التي نتحدث فيها في هذا الأمر. أي أن رئيس الوزراء المكلف لم يقابلني أو يتحدث إليّ في أمر الانضمام لحكومته إلا وقت أداء اليمين الدستورية.     الخلاف في «الخارجية» بعد انتهاء مراسم حلف اليمين، اجتمع الرئيس مبارك بالحكومة وأعطى بعض التوجيهات والتكليفات. بعد الاجتماع طلب مني وبطرس غالي، الذي تم تعيينه نائباً لرئيس الوزراء للاتصالات الخارجية (وليس الشؤون الخارجية)، ولم نكن نعرف معنى محدداً لمفهوم «الاتصالات الخارجية»، الانتظار؛ لأنه يريد أن يتحدث إلينا، فغادر رئيس الوزراء وبقية أعضاء الحكومة وبقيت أنا وغالي. جلسنا في الصالون الكبير بالدور الأرضي بقصر الاتحادية. غالي عن يساره وأنا أمامه. تكلم الرئيس موجهاً حديثه إليّ بشكل أساسي عن أهمية التعاون فيما بيننا بطرس وأنا؛ لأن التحديات التي أمامنا كثيرة، وأنه يرى أننا فريق عمل ممتاز، بإمكانه أن يخدم السياسة الخارجية بطريقة مختلفة عن ذي قبل.     وهنا يجب أن أعيد ما سبق أن أشرت إليه في شأن تقديري لبطرس غالي؛ ذلك الدبلوماسي العظيم، قبل الشروع في الحديث عن علاقتي به خلال عملي وزيراً للخارجية، وعمله كنائب لرئيس الوزراء ل«الاتصالات الخارجية»، فأقول: إنني أعتبره أستاذاً لأجيال كثيرة في وزارة الخارجية، لقد تعلمت منه الكثير، وأحمل له الكثير من الود والاحترام. كنت مقتنعاً تمام الاقتناع بأنه كوني أصبحت وزيراً للخارجية فإن لغالي دوراً وإسهاماً في تشكيل شخصية الوزير الجديد. كنت أقول لنفسي إنه ليس وارداً أن أدخل في منافسة مع غالي أبداً؛ طبقاً لمعطيات الوضع الجديد من كوني أصبحت وزيراً للخارجية وهو في موقع تال لي في رئاسة الدبلوماسية المصرية، مع أنه أعلى مرتبة باعتباره نائباً لرئيس الوزراء. عزمت على عدم التورط في أي تصرف قد يجرح كبرياءه، وهو الأستاذ والوزير القديم في الدولة المصرية؛ وتالياً كان عزمي أكيداً على أخذ رأيه وموقعه وحساسياته في الاعتبار. لكنني كنت أدرك أن غالي رجل عملي، ومسألة حرصي على أخذ آرائه بعين الاعتبار لم تكن تهمه كثيراً، ما يهمه بحكم تركيبته العملية هو تحديد اختصاصاته بوضوح شديد، وهنا خشيت أن يكون الرجل يتصور أنه سيكون صاحب القرار الأول في وزارة الخارجية، وأنني سأكون مساعداً له وإن بدرجة وزير، وهو ما كنت أرفضه رفضاً قاطعاً؛ فوزير الخارجية في تصوري هو وزير الخارجية، أي لا يجب أن يكون هناك أي معقب عليه إلا رئيس الدولة، وأن أية أجهزة أخرى في الدولة يتم التنسيق والتعاون معها دون الخضوع لها، سواء كانوا أشخاصاً أو مؤسسات.     كان موقفي أنه ما دمت قد حلفت اليمين وزيراً للخارجية فأنا المسؤول الأول عنها، وأي خطأ أو فشل سيكون مسؤوليتي أنا دون أي شخص آخر. عبرت عن ذلك صراحة وبكل الصيغ الدبلوماسية للدكتور غالي ونحن في السيارة في طريقنا إلى الوزارة بعد انتهاء لقائنا مع الرئيس مبارك. بمجرد وصولنا وزارة الخارجية بميدان التحرير وصعودنا سلمها الرئيسي دخلت إلى الناحية اليسرى؛ حيث مكتب وزير الخارجية، ودخل غالي إلى اليمين؛ حيث مكتب وزير الدولة للشؤون الخارجية الذي كان يشغله طوال السنوات السابقة قبل أن يصبح نائباً لرئيس الوزراء. وللأمانة فقد قال لي بطرس ونحن في طريقنا للوزارة: «انتبه من الموظفين يا عمرو؛ فبعضهم قال لي: سيادتك يجب أن تجلس في مكتب وزير الخارجية، والوزير الجديد يجلس في مكتبك القديم. انتبه سيحاول البعض إحداث الوقيعة بيننا».   في الأيام الأولى لي بالوزارة كنت مراعياً لمشاعر غالي. طلب بعض الموظفين مني عمل مؤتمر صحفي لأقدم نفسي وسياستي للداخل والخارج، لكني رفضت، قلت لن أقدم على هذه الخطوة إلا بعد ثلاثة أو أربعة أسابيع، أتفرغ فيها لوضع الخطوط العريضة للعمل في المرحلة المقبلة وانتهي فيها من التنسيق مع غالي، ثم وإذ به بدفع من عدد من الموظفين، يدعو إلى مؤتمر صحفي، يشير فيه إلى أنه ينوي عمل كذا، وسيتابع القضية الفلانية، والانطلاق في السياسة العلانية، وكأنه الرجل الأول في وزارة الخارجية. وربما كان بعض من هؤلاء الموظفين ينوي التلاعب بالوزيرين، متوقعين أن أتلو مؤتمر غالي بمؤتمر من جانبي رداً عليه، وهو الذي تحاشيت القيام به. قررت إرجاء التفكير في عقد أي مؤتمر صحفي لما بعد شهر أو أكثر من ذلك اليوم..خلال الأسابيع الأولى لي بوزارة الخارجية لم يكف غالي عن طلب تقسيم العمل بيني وبينه، تحدث في ذلك مراراً مع الدكتور مصطفى الفقي، بصفته سكرتير الرئيس للمعلومات، إلى أن اقترب موعد قيام الرئيس بزيارة رسمية إلى بريطانيا، هي الأولى من نوعها؛ حيث سيتم استقباله فيها استقبالاً رسمياً، وسيقيم في قصر باكنجهام هو وزوجته، ووزير الخارجية وزوجته. كان الموعد المحدد لهذه الزيارة يوم 23 يوليو/تموز 1991، أي بعد شهرين من تعييني وزيراً للخارجية، قال غالي لمصطفى الفقي: بلغ الرئيس يا مصطفى إنه بعد كل هذه السنوات التي قضيتها في وزارة الخارجية أحب أن أكون أنا الموجود معه في زيارته لبريطانيا. فكان جواب مبارك على هذا الطلب: لا.. أنا عندي وزير خارجية جديد الآن، ولابد من تقديمه للدول الكبرى؛ وبالتالي سيكون هو رقم 2 في الوفد الذاهب إلى لندن، لا بطرس غالي.       ترشح غالي للأمم المتحدة رد الرئيس على طلب غالي جعله يعقد العزم على الخروج من وزارة الخارجية، أو من الحكومة كلها، فبدأ يفكر في الترشح لرئاسة منظمة «يونيسكو». وتصادف، طبقاً لما رواه هو لي، أنه كان في زيارة إلى الكونغو (كينشاسا) بينما كانت إفريقيا تجهز قائمة من المرشحين لمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة، اقترح عليه الرئيس موبوتو سيسي سيكو أن يضع اسمه في القائمة، فقال له: ليس لدي تعليمات من الرئيس مبارك بذلك، فقال له سيسي سيكو: «نضع اسمك في القائمة، وارجع بعدها للرئيس. وضع اسمك لن يضيرك في شيء، وإذا لم يوافق مبارك احذف اسمك. سوف أتحدث شخصياً مع الرئيس في شأن ترشيحك». وبالفعل بمجرد عودته إلى القاهرة، قابل غالي الرئيس مبارك واقترح عليه أمر ترشيحه لمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة، فلم يمانع، لكن مبارك لم يكن واثقاً بفوز غالي بهذا المنصب. قال غالي للرئيس: الأمر يحتاج ميزانية ويحتاج دعمكم لي بإرسال رسائل ومبعوثين للدول لطلب تأييدهم لي. فقال له: ارجع في هذا الشأن لوزير الخارجية. وجاء إليّ بالفعل، ووعدته ببذل قصارى الجهد في هذا الأمر. والواقع أن الدكتور مصطفى الفقي سكرتير الرئيس للمعلومات، كان قد أشار في عرضه الأمر على الرئيس إلى الالتزامات الكبيرة التي يتطلبها هذا الترشيح من جهود دبلوماسية وأموال مطلوبة. كانت موافقة الرئيس تعني طلب اعتمادات إضافية ورسم خطط للدعاية واستمالة الدول والاتفاق مع الدول العظمى، فقامت وزارة الخارجية بكل ذلك بكل أمانة ومهنية.     في هذه الأثناء، جاء وزير خارجية الولايات المتحدة جيمس بيكر في زيارة للقاهرة، وطبقاً للعرف الأمريكي، باعتبار أنهم الدولة الأكبر في العالم، لا يذهب وزير الخارجية الأمريكية إلى مقار وزارات خارجية الدول التي يزورها؛ بل يذهب وزير خارجية الدولة المضيفة إلى الوزير الأمريكي حيث يقيم؛ ولذلك أرسلت السفارة الأمريكية خطاباً لنا يقول إن وزير الخارجية الأمريكي سيزور الوزير المصري للتحية في جناحه في الفندق، قلت وماذا يعني ذلك؟ قالوا: لابد وأن يكون لك جناح في الفندق الذي يقيم فيه الوزير الأمريكي؛ كي يعبر جناحه إلى جناحك لزيارتك.. قلت أنا لا أسكن في فندق، ولي مكتب ومنزل تتم الزيارة لأي منهما. أنا أدعو الوزير الأمريكي رسمياً لعشاء في منزلي أو قهوة في مكتبي، وإذا لم يأت بيكر لزيارتي في مكتبي هنا بوزارة الخارجية سأكتفي بحضور مباحثاته مع الرئيس. أبلغ مكتبي السفارة الأمريكية بهذا القرار. أذكر أن الذي أبلغهم بذلك هو السفير أحمد أبو الغيط بصفته نائب مدير مكتبي في ذلك الوقت. وقد كان.. فقد قال بعض من الدبلوماسيين الأمريكيين المرافقين لبيكر إننا نعرف عمرو موسى منذ أن كان في الأمم المتحدة. لن يقيم في نفس الفندق الذي تقيم فيه، ولن يقابلك إلا في مكتبه بوزارة الخارجية، فمن الأفضل أن تزوره في مكتبه كما يريد. وهو ما تم بالفعل.   في هذه الأثناء طلب مني بطرس غالي أن أفاتح جيمس بيكر في أمر ترشحه لمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة، وطلب الدعم الأمريكي له، قلت له: سآتي بالوزير الأمريكي إليك هنا، وجاء بيكر بالفعل إلى مكتبي واجتمعت به أنا وبطرس، لكن الأمريكان لم يكونوا مقتنعين بغالي لهذا المنصب، لكنه فاز بمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة في 12 ديسمبر/كانون الأول 1991، وهو فوز مستحق لشخصية دبلوماسية وعلمية ومفكرة من الطراز الأول. الطريف في الموضوع أن غالي بمجرد توليه منصبه الجديد في الأمم المتحدة، قال للدكتور نبيل العربي، كما حكي لي الأخير، الذي كان مندوباً دائماً لمصر في الأمم المتحدة خلفاً لي: «شوف بقى يا نبيل.. أنا دلوقت علي قمة العالم، أنا بطرس (باشا).. عصمت عبدالمجيد يا دوب (بك) أمين عام للجامعة العربية وعمرو موسى مثله.. يا دوب وزير خارجية مصر، أما أنا بقى.. بطرس باشا أنا على رأس العالم كله».             إعادة هيكلة الوزارة بمجرد تعييني وزيراً للخارجية؛ بل وفي اليوم الأول، قررت أن أعدَل الهيكل التنظيمي لوزارة الخارجية، الذي كنت أرى أنه لم يعد متماشياً مع معطيات العصر الحاضر؛ ذلك أنه بات هيكلاً عتيقاً تم تصميمه على طريقة وزارات الخارجية الفرنسية والإنجليزية والألمانية في عقود سابقة مبكرة في النصف الأول من القرن العشرين. رأيت أن الوزارة بالوضع الذي كانت عليه لن تتواكب مع السرعة المطلوبة والحركية التي أنتهجها في عملي، التي تمكنني من المبادرة والمناورة وسرعة رد الفعل وإبقاء مساحة واسعة للفعل. كنت أطمح في أن أجعل الهيكل والتركيب التنظيمي للوزارة على غرار هيكل وزارة الخارجية الأمريكية الأكثر ديناميكية في رأيي بين وزارات الخارجية في العالم. كلفت أحد السفراء القدامى والأكفاء المعروفين بالدقة وحسن تقدير الأمور، وهو السفير شكري فؤاد ميخائيل بوضع دراسة شاملة وافية عن هذا التطوير المنشود. شرحت له أهدافي منه وعلى رأسها تقدير الكفاءات وتمكين الشباب؛ (ما قبل درجة سكرتير أول وحتى درجة مستشار)؛ ولذلك استحدثنا في الهيكل الجديد عدداً لا بأس به من المناصب القيادية لهم، رغم أن درجاتهم الوظيفية لم تكن تسمح لهم بذلك.   الهدف الثاني من التطوير كان ينطلق من أن الساحة الخاصة بالعلاقات الدولية قد طرأ عليها تغييرات كثيرة جداً، وطرحت عليها موضوعات لم تكن مطروحة في العقود التي سبقت عقد التسعينات من القرن الماضي. كما ظهرت أهمية لموضوعات كان يتم التعامل معها بشكل سطحي نسبياً؛ ولذلك فالهيكل الجديد للوزارة إلى جانب احتوائه على الجزء الخاص بالأفراد، توجه للاهتمام بالموضوعات الجديدة؛ فأنشأنا إدارات متخصصة لمتابعة الموضوعات المهمة التي طفت على الساحة الدولية في أواخر القرن العشرين.           العلاقة بعمر سليمان خلال عملي على ضبط العمل في وزارة الخارجية والارتقاء به، كانت عيني مصوبة في اتجاه إعادة بناء علاقة الخارجية بالأجهزة الأخرى الموجودة في الدولة المصرية، التي يتماس عملها بصورة أو بأخرى مع الوزارة في إدارة أو تنفيذ السياسة الخارجية للدولة المصرية، وعلى رأسها جهاز المخابرات العامة. كنت حريصاً على أن تكون العلاقة مع هذه الأجهزة صحية تقوم على التكامل وتعميم الفائدة والمشاركة في تحقيق المصلحة المصرية بدلاً من التنافس غير الصحي. هنا أقول للتاريخ إنني وجدت في اللواء عمر سليمان، منذ تم تعيينه رئيساً لجهاز المخابرات العامة في 1993، شخصية جديرة بالاحترام والتقدير؛ لأنه كان كبيراً في تصرفاته، راقياً في تعاملاته، مترفعاً عن الصغائر. كنت أستطيع أن أتحدث إليه ـ إذا ما التقينا أو جمعنا سفر ـ منتقداً بعض الأوضاع العامة أو الممارسات الخاصة أو دور المؤسسات هنا أو هناك داخل مصر بكل أريحية. كنت أثق تمام الثقة في أنه حتى بحكم عمله لن يستغل ما قلته له ضدي تحت أي ظرف؛ بل قد ينتفع به؛ ولذلك كنت أتحدث معه بصراحة بالغة بشأن ما أراه على أرض الواقع، وكان يحب ويقدر جداً هذه الصراحة.   في أحد اللقاءات مع عمر سليمان تحدثنا عما كان يقال عن مساعي مبارك أو أسرته لتوريث حكم مصر لابنه جمال. سليمان كان غاضباً جداً من هذا الموضوع. قال: إن «مبارك غير مرتاح، وربما لن يمكن ابنه الشاب من مراده، ولكن الضغوط عليه كثيرة من داخل أسرته». قلت له يومها: الكلام عن التوريث خطر جداً حتى لو لم يكن حقيقياً؛ لأن الانطباع أقوى من الحقيقة، وهو انطباع سلبي، وهذا الانطباع مضر بالبلد، ويجب تبديده. سألت سليمان مستنكراً: ليه يتم توريث حكم مصر؟ واستخدمت كلمة (ليه؟).. بأي حق؟. فرد الرجل قائلاً: «الموضوع ده يا عمرو بيك هيبوظ الدنيا، لأن الولد مش هيقدر على مصر. لو عليّ أنا ميهمنيش أنا كبرت وعايز أتقاعد. المهم نيشان تقدير لي (وصف النيشان بقوله «حتة الصفيحة») في آخر الرحلة. ما يقلقني هو حجم المشاكل اللي هتواجه البلد من وراء الموضوع ده (التوريث)».   كان سليمان رجلاً عظيماً، وأهم ما فيه درجة الصدق التي يتمتع بها. هل يتصور أحد أن أتحدث عن الرئيس وتأثير أسرته بهذه الانتقادات الصريحة أمام رئيس جهاز المخابرات العامة وأنا مطمئن إليه؟. لم يحدث أن أبلغ الرئيس بأي تعليقات أو انتقادات وجهتها له أو أسرته، إنها معادن الرجال. –     نقلا عن صحيفة الخليج الإماراتية

مشاركة :