الجملة الرومانسية التي يتداولها الأميركيون والبريطانيون ويفضلون فيها دولة بلا حكومة على دولة بلا صحافة، لا معنى لها عند المواطن العربي غير الشغوف بمهمة الصحافة أصلا على مر تاريخها.العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/09/16، العدد: 10753، ص(18)] دعونا نتخيل الأمر بطريقة هادئة، لقد وصل العالــم إلى نتيجـة يخضع فيهــا تماما إلى جيل الهواتف الذكيــة، وينتهـي من مسألة صـارت باليـة أكثـر ممـا ينبغــي، وغير مجديـة ولا تحقق مردودا تجاريا، كل ما في الأمــر أن الصحــف تكرر قصصا صـارت معروفــة لنــا، ولا تستحـق مطالعتها. يتوقع الكاتب مايكل سكابنكر أن يكون المستقبل لأجهزة الاستقبال التي تثقب أصابع الإبهام لدينا عندما يكون الإنترنت أشبه بعصب في داخل أجسامنا أو عين شفافة تتواءم مع عيوننا، أو… من يدري؟ عن ماذا سنكتم ضحكاتنا في المستقبل، عن أجهزة الكمبيوتر المحمول، الهاتف الذكي، التلفزيون، طريقة استهلاك الأخبار، الصحف مثلا…! أي أهمية بعدها للصحيفة الورقية عندما تكون أخبار العالم مخزونة في أطراف أصابعنا أو حدقات عيوننا؟ دعونا نفترض، لقد وصلنا من دون مفاجأة إلى اليوم الذي توقفت فيه الصحف الورقية عن الإصدار، ومن دون صدمة لا يوجد في المتاجر والمكتبات والمقاهي شيء اسمه الصحف. ما الذي سيحدث؟ هل سيخرج الناس في تظاهرات احتجاجية ضد قتل الصحف الورقية؟ هل تتأثر الدول الديمقراطية على اعتبار أن الصحافة من أثقل دعامات الديمقراطية الواقفة ضد فساد الحكومات وتغولها؟ أستطيع أن أتخيل الواقع المفترض بعد أن تتوقف الصحف في دولة مهووسة بالصحافة مثل بريطانيا، ولكم ما تشاءون من رسم الصور في أذهانكم عن عالمنا العربي من دون صحف، حتى في هذا الزمن المفتوح معلوماتيا، وبعد أن فقدت الصحيفة دورها في أن تكون لسان حال الزعيم الأوحد! والمصدر المقدس لإخباره “فكرة الجريدة في العالم العربي عادة ما تقترن ببساط أرضي لوضع الطعام عليها، أو لفّه، وفي أفضل الأحوال تكون كيسا للملابس الخارجة توا من محلات الغسل والكي”. ويبقى السؤال يمتلك أهميته بعد أن يورد الناس في العالم العربي قصصهم عن بلدان بلا صحف، عما إذا كانت صحفنا العربية في يوم ما ذات جدوى في إصدارها على مدار العقود الماضية. لأن الجملة الرومانسية التي يتداولها الأميركيون والبريطانيون ويفضلون فيها دولة بلا حكومة على دولة بلا صحافة، لا معنى لها عند المواطن العربي غير الشغوف بمهمة الصحافة أصلا على مر تاريخها، إلا في استثناءات محدودة زمنيا. الأصح أن الصحافة لم تعبر كما ينبغي عن المواطن العربي، واكتفت بأن تكون لسان حال الحكومات. في كل الأحوال لا أتحدث عن مصير الصحافيين بعد أن تتوقف الصحف عن الإصدار “لهم ربهم”، بل عن مصير المجتمعات عندما تكون المقاهي والمكتبات والمتاجر بلا صحف معروضة للشراء.الصحافة لم تعبر كما ينبغي عن المواطن العربي، واكتفت بأن تكون لسان حال الحكومات سيتحدث أشخاص عن مسرات مفقودة ويحنون إليها، بعضهم يتذوق قهوته على أخبار الصحيفة بغض النظر عن أهمية تلك الأخبار، وبعضهم يرى فيها نوعا من السلوى لقضاء ظهيرة ما تبعد عنه الوحدة والكلام مع نفسه، وبعضهم أكثر شغفا بها ككائن ورقي محسوس بين الأصابع ولها ارتباط فكري بالمزيد من الوعي والتأمل في شؤون العالم. كل ذلك سيُفقد وسنشعر بنوع من الحنين إليه، وسيتحدث كبار السن الذين عاشوا عصر الجرائد إلى أحفادهم في ما بعد عن شيء كان اسمه جريدة ورقية كانت في يوم ما مليئة بالأخبار والقصص المصورة تتحدث عن مصير هذا العالم، وسيمر مثل هذا الحديث على الأحفاد غير ذي أثر لأنهم سيجيبون ببساطة: لا نحتاج مثل هذه الجريدة، فكل أخبار العالم متاحة لنا على الأجهزة الذكية في جيوبنا. هذا النوع من الحنين بعد أن تفقد المجتمعات صحفها الورقية، سيكون مشابها لأنواع أخرى من الأشياء أُفتقدت ولم تصب المجتمعات بالضرر، فالبدائل ستكون وافية بسبب التطور أولا والبدائل المتاحة التي تقدم الخدمة نفسها بطريقة حديثة وميسرة ومغرية أيضا. لكن ثمة من يتساءل بألم: إلى هذا الحد ستكون الصحافة بلا تأثير على صناعة وعي المجتمعات؟ قد يتساءل كثيرون: وأين ذهبت مصطلحات اختراق العقول وصناعة الرأي والتأثير على الجمهور؟ أليست الصحافة أول من روج لتلك المصطلحات قبل وسائل الإعلام الأخرى؟ الصحافة صنعت التاريخ السياسي المعاصر، ومن بعد كان لها الدور الأول في صناعة النجوم، قبل أن يخطف منها التلفزيون هذا الدور. الصحافة كانت سلطة المجتمع على الحكومات ومراقبة أدائها ومنع السياسيين من الفساد والاكتفاء بدفع ضريبة الكلام المجرد، كيف يمكن أن نتجاهل أن الصحافة كانت في يوم ما الحنجرة العميقة، ولم يستطع فيسبوك مع ملياري مستخدم أن يكون تلك الحنجرة بشكل ينافس الصحافة إبان مجدها الورقي. لن تفشل الصحافة في معركة البقاء إلا عندما تفتقد الثقة بما تنتجه من محتوى، الثقة هي العنصر الوحيد الذي يحتل الأهمية القصوى، عندما تضعف اليوم تهتز ثقة الصحافة بمستقبلها. أن يكون العالم بلا صحافة في المستقبل، سيناريو قائم، ليس من المهم اليوم تفنيده أو الخضوع له، الأهمية تكمن في أن تعيد الصحافة ابتكار نفسها للتلاؤم مع سلوك القراء الذي تغير ولا يمكن العودة بهم إلى الوراء. أن تعيد الصحافة ابتكار نفسها تلك معضلة الحاضر من أجل دخول المنافسة في المستقبل. كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة
مشاركة :