قبل حوالي ثلاثين عاما صدر في المملكة كتاب بعنوان الحداثة في ميزان الإسلام بقلم الداعية عوض القرني. لا يشبهه في مراميه وأهدافه سوى كتاب مطارق الساحرات الذي صدر في أوروبا في العصور الوسطى. هيأ كتاب مطارق الساحرات مجزرة لأرواح بشرية بريئة مازال الإنسان الأوروبي يخجل من عار تلك الأحداث التي وصمت تاريخه. وضع مؤلفيه بين أيدي محاكم التفتيش المسيحية التشريع اللازم لاتهام النساء البائسات بالسحر وحرقهن أحياء. لا يختلف كتاب عوض القرني (الحداثة في ميزان الإسلام) عن كتاب مطارق الساحرات إلا بفارق زمن الصدور. أخذ القرني على عاتقه بناء التكييف التكفيري اللازم مع تحديد أسماء المتهمين بالإلحاد والزندقة لتأسيس محاكم تفتيش إسلامية في المملكة العربية السعودية. يقدم القرني في مقدمة كتابه تعريفه للحداثة التي سادت في فترة الثمانينيات في المملكة: (ومن هذه الأفكار التي ابتليت بها الأمة وبدأ خطرها يظهر في ساحتنا مذهب فكري جديد يسعى لهدم كل موروث، والقضاء على كل قديم، والتمرد على الأخلاق والقيم والمعتقدات، وهذا المذهب أطلق عليه كهانه وسدنة أصنامه اسم (الحداثة). يبرر القرني تصديه لهؤلاء بقوله (أن الله أخذ العهد على أهل العلم أن يبينوا الحق للناس ولذلك لا يمكن أن يطالب المسلم بالحيادية ودينه يحارَب، وقيمه تدمر، وعقيدته تنتقص) ثم يقرر طبيعة المعركة مع الحداثيين بقوله: (.. لكنني أؤكد أن الصراع مع الحداثة -أولاً وأخيراً- صراع عقائدي بحت). وفي فصل عقده للغموض يقرر القرني التالي (إن أول ما يصدم القارئ لأدب الحداثة هو تلفعه بعباءة الغموض، وتدثره بشعار التعتيم والضباب، حتى إن القارئ يفقد الرؤية ولا يعلم أين هو متجه، وماذا يقرأ: أهو جد أم هزل، حق أم باطل، ...) ويشير بأنه عرض أعمالهم على أساتذة اللغة العربية فلم يفهموا شيئا. لكن هذا الغموض الذي حبسه وحبس أساتذة اللغة العربية عن فهم نصوص الحداثيين لم يحبسه عن تحديد هدفهم (هدم اللغة والدين والعقيدة). في الفصول التالية يقتبس ويسرد ويقرر فيقول: (وكان القاسم المشترك بين جميع هؤلاء التمرد والانحراف عن دين الله والرفض لشريعته) ويقول في موضع آخر (أنهم بالإضافة لغرامهم بالألفاظ الوثنية والنصرانية واليهودية، فإنه يرد في كلام كثير منهم المصطلحات الماركسية، وحين تصبح الصورة غراما باليهودية والنصرانية والوثـنية والشيوعية، وسخرية بالإسلام،) ويقول أيضا (وتصل عبقرية أستاذ الحداثيين لدينا حد الكفر الصريح، والإلحاد). في كل تعليق على نص أو رأي سوف تصطدم بكلمات الإلحاد، الكفر، المذاهب المادية، الوثنية الخ، مقرونة باسم كاتب أو بنص من نصوصه. عشرات من الكتاب والشعراء جهزهم القرني للمثول أمام محاكم التفتيش. في ختام مقدمة الكتاب يوجه القرني النصيحة التالية: (أوجه الدعوة إلى من حمل لواء الحداثة عن قناعة أن يراجع حساباته ويتذكر يوم اليقين، يوم الرحيل عن هذه الحياة وبماذا سيواجه ربه، وليعلم أن التاريخ لا يرحم أحداً، وأنه لا يفرق بين أهل العمالة الفكرية والعمالة الأمنية أو السياسية). نحمد الله أن تحققت نبوءة عوض القرني وحضر التاريخ ليحدد من هم أهل العمالة ومن هم الشرفاء.
مشاركة :