في مذكرات عمرو موسى: عبارة «نحن العرب» إشارة لعودة دور مصر عربيا

  • 9/17/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

في الحلقة السابعة، من الجزء الأول، من مذكرات السياسي العربي، عمرو موسى،  يستعرض مواقفه والدبلوماسية المصرية من القضية الفلسطينية، خلال السنوات العشر، التي قضاها وزيراً للخارجية، وهي القضية التي خصص لها فصلين كبيرين؛ حيث تعد مسارات الصراع العربي «الإسرائيلي» من القضايا التي كرّس لها الوزير موسى كل إمكاناته.     وقال موسى: بوصولنا إلى هذا الجزء المهم وطنياً وشخصياً، الذي خصصته لإبراز جهد ودور الدبلوماسية المصرية في دعم حقوق الشعب الفلسطيني، وإبراز قضيته، والعمل على حلها بما يتماشى وحقهم المشروع في تقرير المصير. ويجب أن أذكر هنا أنه بقدر ما خلقته مصر وسياستها ودبلوماسيتها من زخم هائل جعل من القضية الفلسطينية بنداً له أولوية عالية على الأجندة العالمية، أعطت تلك القضية للدبلوماسية المصرية في الوقت نفسه زخماً مهماً حدد لها هدفاً وغاية، وجعل لها دوراً ليس بقليل على المسرح العالمي، ومساراً مهنياً أحسنت القيام به فنالت تقديراً كبيراً من مختلف الدوائر الفاعلة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة والحركات السياسية التي أفرزتها، وفي إطار الأمم المتحدة وميثاقها ومداولاتها وقراراتها. في هذا الصدد أجد من الحتمي أن أتوقف عند الأهمية الكبيرة لبلاد الشام، ومنها فلسطين، بالنسبة لمصر من الناحية الاستراتيجية، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي بكل حاكم لمصر لأن ينظر بكل ما أُوتي من اهتمام لما يجري في هذه المنطقة المتاخمة لنا. لا أقترح أن استطرد في شرح أو تأكيد هذه القواعد الاستراتيجية المتينة؛ لكنني أوجه رسالة إلى بعض منا من الذين تعالت أصواتهم المطالبة لمصر بالانكفاء على ذاتها، والتقوقع داخل حدودها، والابتعاد قدر الإمكان عن «مشاكل العرب التي لا تنتهي»، أو تلك التي تدعي أن الجهد والدم والمال الذي تم بذله على مدار سنوات عمر القضية الفلسطينية كان يمكن لمصر وببساطة عدم بذله، أو أن يحول إلى اتجاه آخر يركز على ما يهم بالنسبة لتقدم مصر ورخائها في داخلها.     وهنا أقول إن المكاسب الاستراتيجية التي أشرت إلى مجملها أضافت الكثير إلى قدْر مصر ومكانتها، وفتحت أمامها أسواقاً عديدة، وجعلت لكلمتها قيمة واحتراماً، وأما ما عانيناه في نفس تلك الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب الباردة وفي أعقابها يرجع في الأساس إلى سوء إدارة الحكم في مصر، وسوء تقدير الأمور، والتباس الأولويات، فما علاقة القضية الفلسطينية وركاكة مناهج التعليم؟ وما للسياسة العربية التي تتبعها مصر، وتفاعلها منذ السنوات الأولى لاستقلالها، مع حركات الاستقلال العربية؟، ما لهذا بتراجع مؤشرات الرعاية الصحية؟ ما لهذا كله بالزيادة السكانية غير المنضبطة؟، ثم ما لهذا كله بسياسات التنمية المضطربة اقتصادياً واجتماعياً، زراعياً وصناعياً؟، وأخيراً ما لهذا كله بتراجع البحث العلمي، أو بتعطل مسار الديمقراطية؟. إنه سوء إدارة الحكم، أو سوء إدارة الأمور.     مؤتمر مدريد للسلام من أولى المناسبات التي قدرت أنها ستؤدي إلى ظهور قوي للقاهرة على المسرح العربي والدولي بعد طول غياب، مؤتمر مدريد؛ ولذلك وبينما كانت الولايات المتحدة منشغلة بإرضاء «إسرائيل» وطمأنتها حتى توافق على حضور المؤتمر، وبتقديم تنازلات شكلية في مواجهة بعض الاعتراضات العربية، كانت الخارجية المصرية منشغلة بالإعداد لعودة مصر إلى قيادة العالم العربي، وانتهاز مناسبة انعقاد مؤتمر السلام؛ لإخراج منضبط لتلك العودة وتوثيقها. نعم كان حتمياً استغلال تلك المناسبة؛ لإعلان عودة مصر إلى صدارة المشهد العربي، في حضور جميع القوى الإقليمية والدولية منفردة ومتعددة الأطراف، ولم تكن هناك مناسبة متاحة للدبلوماسية المصرية أعظم من هذا المؤتمر الدولي الاستثنائي.             اتفق وزيرا خارجية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي أثناء زيارتهما ل «إسرائيل» يوم 18 أكتوبر/‏‏‏تشرين الأول 1991 على توجيه الدعوة نهائياً لانعقاد مؤتمر السلام في 30 أكتوبر في مدريد، وعلى إشراك الفلسطينيين كوفد مشترك مع الأردن، ولم تكن الدبلوماسية المصرية بعيدة عن التنسيق مع الجانب الفلسطيني في هذا الصدد. كان «الإسرائيليون» يريدون التفاوض ثنائياً مع كل فريق على حدة، ولم يكن الجانب العربي على تعدد أعضائه على استعداد لقبول المنطق «الإسرائيلي»، وعبّر معظمهم عن عدم ارتياحه؛ ولذلك ابتكر وزير خارجية الولايات المتحدة جيمس بيكر، فكرة التفاوض على مسارين: ثنائي ومتعدد الأطراف. بدأت الإعداد مبكراً لهذا المؤتمر، بأن كلفت أحد مساعدي الأكفاء، وهو السفير رضا شحاتة، الذي أصبح مديراً لإدارة الهيئات الدولية بالوزارة، بتجهيز مشروع لكلمة مصر أمام هذا المؤتمر، بعد أن حددت محاورها الرئيسية. قلت له بإمكانك أن تضيف على هذه المحاور ما تراه مناسباً، المهم أجد الكلمة جاهزة فور عودتي من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، التي تعقد في سبتمبر/‏‏‏أيلول. كنت أريد لهذه الكلمة أن تكون فارقة في علاقات مصر العربية، وفي تقدمها بطرح جديد يتعلق بالسلام في المنطقة، واستعادة دورها الريادي في هذا الإطار.       نحن العرب  كان عزمي أكيداً على أن أخاطب المؤتمر بعبارة «نحن العرب»، مع التذكير بإسهام الحضارة العربية في الحضارة العالمية. قدرت أن المؤتمر فرصة عظيمة لإعلان القاهرة أنها تتحدث باسم الأمة العربية مجدداً، مع الأخذ في الحسبان مختلف المتغيرات التي حدثت في المنطقة خلال سنوات المقاطعة، وأهمية عدم المساس بمعاهدة السلام المصرية «الإسرائيلية»، خاصة ونحن على أبواب عملية دبلوماسية كبرى تتعلق بالسلام في الشرق الأوسط ودور مصر فيه. افتتح المؤتمر يوم الأربعاء 30 أكتوبر/‏‏‏تشرين الأول 1991، في قصر «الشرق الملكي» بالعاصمة الإسبانية مدريد بكلمة من رئيس وزراء إسبانيا، فيليب جونزاليز، رحب فيها بالوفود المشاركة، ثم كلمة الرئيس الأمريكي جورج بوش. ثم ألقى الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف كلمته. كلمة مصر كانت في ختام اليوم الأول. تقدمت لإلقاء الكلمة بصفتي رئيساً للوفد المصري. جاءت اللحظة التي أستعد لها والدبلوماسية المصرية كلها منذ فترة. بعد العبارات الاستهلالية التقليدية، مضيت سريعاً صوب صلب الرسالة التي أعددت لها جيداً؛ حيث قلت بالنص: «… نحن- المصريين- نحن العرب، أهل تاريخ وأصحاب إسهام في حضارة هذا العالم، وكما كان إسهامنا في ماضي العالم، قديمه وقريبه، فإن عزمنا لأكيد بأن نسهم في رسم أطر العالم الجديد، التي لا يمكن إلا أن تكون أطر تعاون وتفاعل، طالما كانت قواعد العدالة، ومبادئ الشرعية لحمتها، والمساواة والتقابل في الحقوق والالتزامات سداها».             اللقاء مع شامير في نهاية اليوم الثاني للمؤتمر، طلب رئيس الوزراء «الإسرائيلي» إسحاق شامير اللقاء معي، واجتمعنا في مساء ذات يوم في غرفة مزدحمة من حجرات الفندق. تحدث شامير بأكثر المواقف تشدداً. قال إنه لن يتجاوز تنفيذ فكرة الحكم الذاتي للفلسطينيين، وإنه لا يمكن أن يتجاوز هذه المرحلة إلى المجهول، أو يوافق على إقامة دولة فلسطينية يمكن أن تهدد «إسرائيل»، وأوضح بأنه سيتفاوض ويتفاوض، ويبقي على التفاوض لمدة عشرة أعوام، ولن يسلم بشيء أو يعطي الفلسطينيين شيئاً!! استفزني كلام شامير، ورددت عليه بمنتهى القسوة. قلت له إنك تكرر على مسامعنا هذا الكلام غير المشجع، الذي لا يوحي أبداً بأننا في مؤتمر سلام؛ بل في مؤتمر صدام. إنك تستعين بمتشددين، ولو أني في مكانك ما استعنت لا بهذا ولا بهذا ولا بذاك، وأشرت إلى عدد من مساعديه واحداً واحداً، فأخذ رئيس الوزراء «الإسرائيلي» من حدتي في الحديث إليه، كما أخذ الوفد «الإسرائيلي» لإشارتي إلى أعضائه غير المؤمنين بالسلام، لكني تيقنت من حديث شامير الصريح، أنه لا توجد نية لدى قادة «إسرائيل» لحل الصراع، وأنهم سيماطلون ل«إدارة الصراع» وليس وضع نهاية له.   إني مقتنع تماماً بأنه لم يكن ليصح أن أتحدث إلى شامير بغير هذه اللهجة الحادة، بعد أشهر قليلة من تعييني وزيراً للخارجية؛ لأنني قدرت أن من يعملون على التغاضي ولو جزئياً عن أعمال «إسرائيل» بدأوا يتزايدون في مصر والعالم العربي، وأن المصلحة العربية تقتضي أن يخرج من رحم العرب من يستطيع أن يقول لهؤلاء القادة «الإسرائيليين» «لا»، و«لا كبيرة جداً»، في مواجهة كذبهم وسوء نواياهم بالنسبة للفلسطينيين، وقد ظهر لدي طوال مسيرتي الدبلوماسية بأن هؤلاء القادة «الإسرائيليين» على اختلاف مشاربهم الحزبية والأيديولوجية «أساتذة في الدجل السياسي». التقيت ثنائياً خلال المؤتمر ولأكثر من مرة بوزير الخارجية الأمريكية جيمس بيكر. كان حديثي واضحاً إليه، وهو أننا نشدد على ربط المسار الثنائي بالآخر متعدد الأطراف، وأنه إذا لم تحقق المسارات الثنائية، لاسيما الفلسطيني منها، أي تقدم ملموس يعكس نوايا «إسرائيلية» جادة، فسوف تتخذ مصر من المواقف ما يؤدي إلى وقف أي حدوث تقدم مواز على المسار المتعدد. قلت له: «التقدم هنا مرتبط بالتقدم هناك»، باعتبار أن المسار متعدد الأطراف هو الجائزة الحقيقية المفترضة ل «إسرائيل» لما ينطوي عليه من فرص تطبيع مع عدد من الدول العربية، والاستفادة الاقتصادية من وراء ذلك، دون التنازل عن الأرض المحتلة، وهو ما حاربته الدبلوماسية المصرية بالفعل خلال السنوات العشر التي توليت فيها وزارة الخارجية.     انتهى مؤتمر مدريد وقد خرجنا منه بمكاسب مصرية، على رأسها أن الأمريكان وال«إسرائيليين» تيقنوا أنه لا يمكن تدجين مصر، وأنها حية وحاضرة وقادرة في الصراع العربي «الإسرائيلي»، وأن توقيع اتفاق سلام مع «إسرائيل» لن يحول دون دفاع القاهرة عن الحقوق العربية.   مفاوضات أوسلو السرية لا أستطيع أن أقول إنه كان لمصر إسهامها في مفاوضات أوسلو السرية بين الفلسطينيين و«إسرائيل»، التي بدأت في 20 يناير/‏‏‏كانون الثاني 1993، وتمخضت بموافقة الطرفين في النهاية على مسودة (إعلان المبادئ الفلسطينية «الإسرائيلية») وعلى الاعتراف المتبادل بين المنظمة و«إسرائيل»، وهو ما تم بالفعل. لم يكن لنا إسهام؛ لأن «الإسرائيليين» أرادوا أن يكونوا وحدهم مع الفلسطينيين، ولم يكن الفلسطينيون يمانعون في ذلك، خاصة بعدما وافق عرفات على تفويض عدد من المفاوضين بالجلوس في مفاوضات أوسلو، والعمل على الوصول إلى اتفاق. لم يكن مبارك مهتماً بتفاصيل ما يجري في أوسلو، كان رأيه أنه «مادام الفلسطينيون سعداء وراضين عن هذا المسار التفاوضي فلا داعي لأن نكون ملكيين أكثر من الملك»؛ لكني حاولت معرفة تفاصيل ما يجري في هذه المفاوضات، رغم اتفاقي مع وجهة نظر الرئيس، أي أنه مادام الفلسطينيون يتفاوضون بأنفسهم مع «الإسرائيليين»، ويقبلون هذا المسار فلا داعي لأن نفرض أنفسنا، إلا أنني كنت قلقاً إزاء انعدام التوازن بين الطرفين المتفاوضين من حيث القوة والجاهزية. كما لم أكن مقتنعاً بأن الأمريكان ليسوا في كامل الصورة مما يجري، وبالتالي كنت خائفاً من أن تكون مصر فقط هي التي ليست في كامل الصورة.   عدم تشاور المفاوضين الفلسطينيين معنا وضعنا في بعض «العتمة» السياسية، ومع ذلك يجب القول إن اتصالات متناثرة (بمعنى غير دورية أو محددة المواعيد) كانت تتم مع الرئاسة ومع المخابرات ومعنا في الخارجية، وكنَا نعي أن هذه الاتصالات لا يمكن اعتبارها قاعدة معلومات خصبة يمكننا أن نبني على أساسها تقييماً أو سياسة، وأننا إذا طالبناهم بناء على هذه المعلومات القليلة برفض بعض البنود التي نراها مجحفة بحقهم ستصبح مصر عنصراً معوقاً للسلام، وتحاول فرض وصاية على الفلسطينيين؛ بل قد يعد بعضهم أننا نزايد عليهم، ومن ثم فلم نقدم أي اقتراح أو تعديل أو اعتراض. كانت المعلومات التي تردنا من أجواء المفاوضات تثير عدداً من الملاحظات على أداء المفاوضين الفلسطينيين، كنت أرى أن هناك أموراُ تحتاج إلى توافق فلسطيني يتم قبل الدخول في مفاوضات تتعلق بها، كما أن هناك موضوعات ذات أجل طويل لا داعي للتعرض لها في اتفاق مرحلي، وكذلك إن هناك أموراً تحتاج لتعديلات تتم قبل قبولها، وبالمثل هناك نقاط لا يمكن الموافقة عليها إلا بعد الرجوع للشعب الفلسطيني. وهناك نقاط يمكن البناء عليها. والحاصل أن الشعور الفلسطيني العام إذا جمعنا الموافقين والمعارضين، والمتفائلين والمشككين كان إيجابياً نحو عملية أوسلو، ولم أر من المناسب أن تلعب مصر دوراً يمكن اتهامه بالتعويق، مع الحذر المناسب والاستعداد المستمر للمفاوضات القادمة.   ولعله من المناسب هنا أيضاً التذكير بما عبرت عنه في حينه من إيماني العميق بأن ما جرى في أوسلو وما بعد أوسلو يدخل ضمن الاستراتيجية «الإسرائيلية» التي تستهدف «إدارة النزاع»، وليس التوصل لحلول نهائية له. كان هدف «إسرائيل» إعادة عرفات إلى غزة؛ لإحداث نوع من الهدوء والهدنة غير المعلنة، لكن أين الحركة الأساسية التي تستهدف حلا ًعادلاً وشاملاً للقضية الفلسطينية؟ غير موجودة على الإطلاق .         قمة شرم الشيخ لم يستطع الشعب الفلسطيني الصبر بعد أن فقد الأمل في إحداث تسوية عادلة، وفي 28 سبتمبر/‏‏‏أيلول 2000، اقتحم أرييل شارون زعيم كتلة الليكود المعارضة – وقتذاك – المسجد الأقصى، وهي القشة التي أدت لاندلاع الانتفاضة الثانية، التي قاوم فيها الشعب الفلسطيني بطش الاحتلال وقدم مئات الشهداء والجرحى في المواجهات معه. . أذكر أن الرئيس اتصل بي تليفونياً في أوائل أكتوبر/‏‏‏تشرين الأول ـ وكانت الانتفاضة مشتعلة ـ  وأنا، في السيارة في مصر الجديدة وسأتجه إلى مناسبة ما، إثر مكالمة جاءته من أمريكا (هكذا قال لي) واستمر: «عايزين يجتمعوا هنا في شرم الشيخ في(يومي 16 و17 أكتوبر) عشان يشوفوا حل ل(البلوة الفلسطينية). قلتلهم تعالوا». سألته: مين اللي هيجوا؟ قال: «الإسرائيليون» والفلسطينيون طبعاً، والأمريكان والملك عبدالله ملك الأردن، وكوفي عنان (السكرتير العام للأمم المتحدة)، خافيير سولانا، (الأمين العام للاتحاد الأوروبي).   سألت: الأمريكان يعني كلينتون؟ قال الرئيس: «طبعاً وهو إحنا هنرفض زيارة كلينتون؟» سألت وما هو جوهر الموضوع الذي سوف نناقشه؟   قال: هو فيه حاجة جديدة يا أخي.. أنت هتكون المفاوض مع صاحبتك أولبرايت، وبعدين نشوف.   قلت يا سيادة الرئيس: إذن نبدأ بمباحثات على مستوى وزراء الخارجية.   قال نعم. أضفت: وعلى أساس ذلك نحدد ما يحصل عليه الطرفان. قال: وهو كذلك. ثم أضاف: أشوفك بعد يومين في شرم الشيخ وقفل الخط.             قضيت باقي اليوم والوقت المتبقي حتى انعقاد المؤتمر في ترتيب الموقف المصري، وفي اتصال مع الفلسطينيين وفي التنسيق مع الرئاسة بالنسبة لترتيب الإقامة، فلم أكن أريد أن ينزل الأمريكان و«الإسرائيليون» في فندق واحد، وكنت أريد أن ينزل الفلسطينيون مع الوفد المصري في فندق واحد، وتم التفاهم على كل ذلك. وأثناء التحضير للمؤتمر رأيت أن الأمريكان و«الإسرائيليين» يحولون مسار الحركة السياسية بشأن الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» إلى موضوع «أمن إسرائيل»، بمعنى بحث كل الحجج الفلسطينية فيما يتعلق بالحدود والسيادة والقدس وغيرها بعد تحديد أطر «أمن إسرائيل» وبناء على نتائجها، وهو ما اعترضت عليه في حضور ياسر عرفات، الذي خرج ليعلن بعد المؤتمر أن عمرو موسى لن يكون وزيراً لخارجية مصر. بعد ظهر اليوم الأول للمؤتمر .. زرت الرئيس في مقر إقامته؛ حيث شربنا الشاي معاً، ثم فتحت الموضوع بصراحة ودون مواربة سائلاً عن هذا المسار الجديد، أي الاجتماع الأمني الذي تم الترتيب له بدقة وما هو المطلوب بالضبط؟   رد الرئيس: هنشوف؟.. إنتوا هتبدأوا متى اجتماع وزراء الخارجية؟   قلت: بعد نصف ساعة، مضيفاً يا سيادة الرئيس: هل يمكن أن يجتمع وزراء الخارجية ويناقشوا تفاصيل سياسية وتنفيذ اتفاقات قائمة (لم تنفذ بسبب «إسرائيل») دون أن نعرف ماذا يجري في ذلك الاجتماع الموازي المنعقد في فندق آخر (اجتماع القادة الأمنيين) وكأنه منبت الصلة عما يجري هنا؟ ..وبدأ النقاش يعكر صفو علاقة العمل بيني وبين الرئيس.   ذهبت للقاء أولبرايت وكان يتواجد أيضاً كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، ولم تسر الأمور كما يجب. كان موقف أولبرايت هو الدفع نحو إعطاء موضوع الأمن، أمن «إسرائيل» أولوية دون الاهتمام بأية أمور أخرى تتعلق بعملية السلام ذاتها، أو ما يمكن أن يعد فائدة للفلسطينيين، الأمر الذي أثارني، والحقيقة أن ما أثارني أكثر هو محاولة الحصول على «تفاهم سياسي» يخدم أو يسلم بأولوية موضوع الأمن «الإسرائيلي»، وهو ما لم يكن من الممكن أن أقبله ضميرياً وأخلاقياً قبل أي شيء آخر. انتهى الاجتماع بعد أن قرر الأمريكان ألا داعي لاستمراره، وبدأت الأمور تتعقد بشكل أوحى بأن مستوى وزراء الخارجية سوف يتم تجنبه لمصلحة المفاوضات الأمنية الجارية، التي ستعرض نتائجها مباشرة على مستوى القمة. يبدو أن أولبرايت وأعضاء الوفد المرافق لها كانوا يريدون أن يبحروا في مياه سهلة، ويبدو أنها قد حصلت على تأكيدات بهذا الشأن، وجئت أنا لأعترض طريقها. بعد هذا الاجتماع اعترضت أولبرايت صراحة على طريقتي في تسيير الأمور كرئيس للوفد المصري في الاجتماعات.             اجتماع منفرد بين «مبارك» و«أولبرايت» دون إخطاري  قالت إن «عمرو موسى سيفسد العلاقة مع «إسرائيل». وما جعلني أستشيط غضباً هو استجابة الجانب المصري للضغوط الأمريكية ومحاولة إبعادي عما يجري في مؤتمر شرم الشيخ؛ بل وصل الأمر إلى عقد اجتماع منفرد للرئيس مع وزيرة الخارجية الأمريكية سراً، ودون إخطاري بذلك، وقبول مقترحاتها في كيفية وقف القتال بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين». علمت بموضوع هذه المقابلة، فتوجهت إلى الرئيس وأنا في قمة الغضب. تحدثت بلهجة فيها شيء من الحدة، دون أن أتجاوز حدود اللباقة. قلت: كيف يتم اجتماع مع وزيرة الخارجية الأمريكية دون حضوري؟ أليس من الطبيعي أن أكون حاضراً لاجتماع فيه نظيرتي الأمريكية، وأنه لابد وأن أكون في الصورة كاملة مما يجري؟   احتد النقاش، وإن في حدود، ثم غادرت الغرفة غير مقتنع، ولخروجي مسرعاً أغلق باب الغرفة بقوة خلفي، فاعتبر المحيطون بالرئيس أن هذا كان استكمالاً للهجتي الحادة معه، ولكن الواقع أنني خرجت دون أن أغلق الباب تاركاً ذلك للحاجب الذي كان واقفاً، ولم أعلم بأنه أغلقه بصوت مسموع ربما سببه تيار هواء.   علمت فيما بعد من السفير أحمد أبو الغيط، الذي كان يشغل منصب المندوب الدائم لمصر بالأمم المتحدة وقتها، أن زكريا عزمي قد التقاه أثناء زيارة له للقاهرة، وقال له إن موسى احتد على الرئيس بشدة، و«خبط الباب جامد» في وجهه عند خروجه من مقابلة معه شهدت نقاشاً بينهما ارتفع فيها صوت موسى على صوت الرئيس، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال لوزير مهما كان حجمه أن يعامل الرئيس بهذه الطريقة؛ ولذلك فهو يبحث عن بديل له في وزارة الخارجية. قلت لأبو الغيط بالحرف: «لعلك تذكر أنني كثيراً ما أخبرتك بأنني لن أبقى أكثر من 10 أعوام في منصبي قبل أن أغادره، يبدو أنها اقتربت يا صديقي»، لم أكن مهتماً ولا قلقاً؛ بل كنت غاضباً وراغباً في المغادرة.   اختتم مؤتمر شرم الشيخ بكلمة ألقاها بيل كلينتون، قال إنها تلخص ما تم التوصل إليه خلال المؤتمر، غير أن «الإسرائيليين» سربوا أن ما أعلنه كلينتون ليس هو بالضبط ما تم التوصل إليه، بل وسرّبوا أن هناك «اتفاقاً أمنياً سرياً» تم التوصل إليه مع الفلسطينيين، وهو ما أشار إليه كلينتون نفسه في مذكراته تحت مصطلح «الخطة الأمنية، التي وضعها مدير المخابرات الأمريكية (CIA) جورج تينت»، التي لم يعلن تفاصيلها في هذه المذكرات، التي اعترف فيها بأن مبارك شخصياً لعب دوراً كبيراً في إقناع عرفات بما تم الاتفاق عليه خلال القمة.

مشاركة :