في مذكرات عمرو موسى: تفاصيل الحرب الدبلوماسية بين مصر و «جبهة الرفض» العربية

  • 9/13/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

في الحلقة الثالثة من مذكرات السيياسي المصري البارز، عمرو موسى، وزير الخارجية والأمين العام الأسبق للجامعة العربية، يكشف تفاصيل الحرب الدبلوماسية التي خاضتها مصر ضد محاولات «جبهة الرفض» التي تشكلت من عدد من الدول العربية – لعزل مصر دولياً بطردها من المنظمات الإقليمية والدولية عقاباً لها على توقيع اتفاقية السلام مع «إسرائيل»، التي استعرضها موسى في الكتاب من وثائقها الرسمية :      تشكيل جبهة الرفض « الصمود والتصدي»بعد إعلان السادات في 9 نوفمبر/‏تشرين الثاني 1977 أمام مجلس الشعب استعداده لزيارة القدس، وإلقاء خطاب أمام الكنيست «الإسرائيلي» لتحقيق السلام، شكلت ليبيا، سوريا، العراق، منظمة التحرير الفلسطينية، وأيدتهم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ما عرف باسم «جبهة الرفض»، أو«جبهة الصمود والتصدي»، بناء على دعوة الرئيس الليبي معمر القذافي. وقرر أعضاء هذه الجبهة في ديسمبر/‏كانون الأول 1977 تجميد العلاقات مع مصر. واستطاع القذّافي ومعه سوريا، تحويل الجبهة إلى كيان سياسي يهدف لملاحقة مصر وعزلها عن عالمها العربي، وتمكنت من أخذ موافقة أعضاء الجامعة العربية على قرار ينص على طرد مصر من الجامعة إذ استمرت على نهجها، ونقل مقرها من القاهرة إلى تونس. بعد ذلك انعقدت القمة العربية في بغداد سنة 1978، وهي القمة التي أرسلت بعثة للتحدث مع السادات وعرض تقديم 5 مليارات دولار مساعدات مالية لمصر بشرط تراجعه عن السلام، فرفض مقابلتهم، كما رفض العرض؛ فعملت الجبهة على طرد مصر من العديد من المنظمات الدولية؛ فوقع على عاتقي باعتباري مديراً للهيئات الدولية بوزارة الخارجية العبء الكبير في التصدي لهذه المحاولات.المواجهات مع جبهة الرفض العربي المواجهة الأولى مع «جبهة الرفض» كانت في مؤتمر وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي العاشر في فاس المغربية. وجهت المغرب الدعوة لمصر لحضور هذا المؤتمر المقرر افتتاحه في 8 مايو/‏أيار 1979. وعندما شرعت القاهرة في التحضير لسفر وفدها، طلبت الحكومة المغربية من مصر التريث، حتى يصل مبعوث من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي لمناقشة الموضوع مع الحكومة المصرية، وهو ما استجابت له القاهرة. كنت عضواً في الوفد المصري الذي تقرر سفره إلى فاس برئاسة المرحوم حسن التهامي، مستشار رئيس الجمهورية. كان التهامي يتعامل من دون نظام واضح يليق برئيس لوفد مصر في مهمة صعبة قد تصل لمعركة دبلوماسية. كان أثناء التحضير للقمة يعطي مواعيده من دون تحديد ساعة معينة، كأن يقول «نجتمع بعد العشاء أو قبل المغرب..»، وهو ما جعلني أستشعر بعض الاستغراب، بل بعض الطرافة، وكذلك بعض التخوف من تصرفات التهامي، وكانت الأدبيات السياسية مملوءة بالإشارة إلى تصرفاته الغريبة. جاءت ساعة السفر، وبينما نحن في صالة كبار الزوار بمطار القاهرة، تلقى التهامي مكالمة هاتفية تفيد بأن «العرب لن يتركوكم وشأنكم في المؤتمر.. وقد يتعرض أعضاء الوفد للاعتداء». بعدها بدأ التهامي يشيع بين أعضاء الوفد أن الأمور ستكون صعبة علينا، وأن مسألة طردنا من «المؤتمر الإسلامي» ماضية إلى النهاية، وبالتالي لا بد من عدم السفر قبل أن نجتمع بمبعوث المنظمة الذي نصح ملك المغرب بالاستماع إليه قبل السفر. كان رد الكثير من أعضاء الوفد على التهامي بعبارة «اللي تشوفه»؛ لكنني قلت له: «يا حسن بك.. يجب أن نسافر ونحضر القمة.. ذهابنا سيمكننا من تغيير الموقف، وربما نتمكن من استصدار قرار جيد، أو منع قرار سيئ، أما الغياب فسيكون ضاراً بمصلحة مصر». لكن الذي حدث أنه في 6 مايو / آيار 1979، وصل القاهرة السفير يوسف سيلا، مبعوث الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي. بغرض إقناع الحكومة المصرية بعدم حضور المؤتمر، لتفادي حدوث مجابهة مع بعض الدول العربية التي قطعت علاقاتها مع مصر، موضحاً أن وفود بعض الدول ستنسحب من المؤتمر إذا حضر الوفد المصري. أسفرت هذه التطورات عن غياب مصر، وانتهى المؤتمر بتعليق عضويتنا في المنظمة. موقعة سريلانكا نجاح «جبهة الرفض» في تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية و«منظمة المؤتمر الإسلامي» ـ  من دون أن تتاح للدبلوماسية المصرية فرصة مواجهة هذه الجبهة وجهاً لوجه ـ شجعها على المضي قدماً في محاولة طرد مصر من بقية المنظمات الدولية والإقليمية، وهو ما حاولنا التصدي له بمنتهى القوة، والحزم، والبراعة الدبلوماسية، وقد بدأنا هذا النهج اعتباراً من الاجتماع الوزاري لمكتب التنسيق الدائم لدول عدم الانحياز الذي انعقد في كولومبو بسريلانكا في يونيو/‏ حزيران 1979 ، وهو اجتماع تحضيري للقمة التي كانت ستتسلمها كوبا وتنعقد في هافانا خلال شهر سبتمبر/‏أيلول من نفس العام.  والحقيقة أن وزارة الخارجية، وفي القلب منها إدارة الهيئات الدولية التي كنت أترأسها، قد أخذت على عاتقها الحيلولة دون نجاح «جبهة الرفض» في عزل مصر بإخراجها، أو تجميد عضويتها في المنظمات الدولية، وللتاريخ أقول إننا اعتبرنا أن هناك حرباً دبلوماسية تشن على مصر، ويجب التصدي لها بشجاعة وبسالة. وصلنا كولومبو صباح 3 يونيو/ حزيران ، وشهد هذا اليوم أكثر من اجتماع لتنظيم التحرك أمام مساعي الجبهة لوقف عضوية مصر في «عدم الانحياز»، انطلاقاً من المعلومات التي وفرتها السفارة المصرية في سريلانكا في هذا الخصوص. كانت خلاصة هذه الاجتماعات تتمثل في الاتفاق على اتباع استراتيجية هجومية ضد «أهل الرفض»، بدلاً من التخندق في مواقع دفاعية. كانت اللجنة التحضيرية في هذا الاجتماع الوزاري تضم دهاقنة (الدهقين هو الأكثر مهارة) الصياغات في دول الحركة الذين لم يكن من الممكن أن يمر من بين أصابعهم شيء أبداً من دون معالجة شافية وافية. كنت أعرف هؤلاء «الدهاقنة» جميعاً. كما عملت معهم، لكنهم أصبحوا في الجانب الآخر، وأصبحت وحدي ضدهم في هذه اللجنة، حيث كانوا يحاكمون مصر واتفاقية السلام مع «إسرائيل». كان رئيس الجلسة سفيراً من دولة جويانا (جزء من منطقة الكاريبي)، وكان حديث الانضمام إلى هذه الحلبة، وبالتالي لم يكن من «المتودكين»، أو لم يكن من «الدهاقنة». تيقنت أنه سيكون مهزوزاً؛ فبحثت عن نقاط الضعف التي يمكن أن أستفيد منها في التراشق الذي أعرف أنه قادم لا محالة. بدأت بمناقشة البند الخاص بالشرق الأوسط الذي يتضمن مشروع قرار مقدم من دول «الرفض» بوقف عضوية مصر في «عدم الانحياز»، وإدانة اتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية ـ «الإسرائيلية». كان هجوم بعض الوفود العربية، لاسيما أعضاء «الرفض» شديداً ضدنا، لكن نبرة الدول الأخرى كانت أقل في حدتها بنسبة تصل إلى 50%؛ فالدول العربية لديها إصرار كبير على طردنا من الحركة، أما الدول الإفريقية والآسيوية فغير متحمسة، كان حديثهم في الجلسة يصل إلى حد لوم مصر على توقيع اتفاقية السلام لوماً شديداً، لكنه لا يصل إلى حد المطالبة بطردها من الحركة. تابع رئيس الجلسة المعركة حامية الوطيس مع ممثلي «الرفض»، وقال: أرى أن هناك consensus (توافق آراء) على طرد مصر من الحركة، وإدانة اتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة السلام، وبالتالي سيرفع القرار إلى اللجنة الوزارية، التي سترفعه بدورها إلى القمة المقبلة في كوبا. وبينما يرفع رئيس الجلسة يده بالمطرقة لإعلان «توافق الآراء» صرخت فيه بأعلى صوتي: قف «stop»، فأخذ الرجل، أو «كش»، وأنزل يده، ونظر لي، ولم يعلن اتخاذ القرار. في هذه اللحظة دخل مندوب الهند على الخط، وقال له: سيادة الرئيس أرى أنك متعجل في إعلان «توافق الآراء»، وطلب «نقطة نظام»؛ فأعفاني من القيام بمناورة أو مماطلة سياسية filibuster كنت أستعد للقيام بها، عبر إلقاء خطبة طويلة جداً لإضاعة وقت الجلسة، وهو ما جعلني أحتفظ بهذا الإجراء لوقت لاحق. بدأ بعض العرب الذين كانوا مائلين لصف مصر مثل سلطنة عمان والصومال بالتدخل. قالوا لرئيس الجلسة: ليس من الطبيعي أن تقول إن هناك (توافق آراء) على طرد مصر، ونحن لم نأخذ فرصتنا في الحديث والتعبير عن مواقف بلادنا من هذا الأمر. عندها أخذ رئيس الجلسة في اعتباره أن هناك وفوداً لدول لا تتحدث بذات اللهجة المتشددة ضد مصر، وأنها لم تعبر بعد عن مواقف بلادها، وأنه من المبكر اعتبار أن هناك «توافق آراء» بشأن هذا البند الخاص بالشرق الأوسط. جاءني في اليوم التالي رئيس الجلسة، وقال لي: سيد موسى سأقول في تقريري الذي سيرفع للوزراء «كان هناك رأي أغلبية يؤيد طرد مصر من حركة عدم الانحياز، وفي المقابل كان هناك رأي يعتبر أقلية ضد هذا القرار». كان هذا كافياً جداً بالنسبة إلي لنسف «توافق الآراء» حول مشروع قرار بطرد مصر من «عدم الانحياز» في مهده باللجنة التحضيرية. يمكنني القول: إن صرختي هذه في رئيس الجلسة عندما رفع مطرقته لإعلان «توافق الآراء» على طرد مصر ثم عدم طرقها كانت «مفصلية» في إجهاض هذا القرار إلى الأبد من المنبع؛ لأن مرور هذا القرار من اللجنة التحضيرية ورفعه إلى اللجنة السياسية كان سيذهب به بعيداً كتوصية رسمية إلى قمة كوبا. تجدد الحرب في هافانا خلال الفترة بين 3 – 9 سبتمبر/ أيلول  1979، انعقد المؤتمر السادس لقمة حركة عدم الانحياز في هافانا عاصمة كوبا، بحضور عدد كبير من الرؤساء على رأسهم الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، ورئيس يوغسلافيا جوزيف تيتو، والرئيس السوري حافظ الأسد، والرئيس العراقي صدام حسين، ورؤساء كثر من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. أعادت «جبهة الرفض» طرح موضوع طرد مصر من الحركة، وتجددت الحرب الدبلوماسية في أروقة المؤتمر. كان وزير الدولة للشؤون الخارجية بطرس غالي، يجلس على مستوى القمة، وعصمت عبد المجيد يحضر الاجتماعات الوزارية، أما اللجنة السياسية على مستوى السفراء فيحضرها عمرو موسى ومعه أحمد صدقي، ليدعمه باتصالاته الإفريقية. كان الهجوم عنيفاً على مصر في اللجنة السياسية، التي كان يترأسها السفير عصمت كتاني وكيل وزارة الخارجية العراقية، وكان قبل ذلك مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة، وهو من الأكراد العراقيين، وكان شخصية جيدة جداً، وعاقلة، بل وراقية، وكان لي معه بالطبع سابق معرفة. في بداية الجلسة قلت لكتاني ـ الذي تقود بلاده «جبهة الرفض» ـ أريد التحدث في البداية لمدة 5 دقائق، وذلك في البند الأول الخاص بمصر ووضعها (وذلك حتى يكتمل حضور الدول الداعمة لمصر والتي تم الاتفاق معها على موقف واضح ضد طرد مصر من الحركة)، فرد عليّ الرجل باسماً بقوله: charity begins at home، بما معناه بالمثل المصري الدارج «ما يحتاج إليه البيت يحرم على الجامع». كان كتاني متمرساً ومتوقعاً ما سأقوم به، ومن هنا لجأت إلى تكتيك ال filibuster أي «المماطلة الخطابية»، وتضييع وقت الجلسات في المناكفات والمناقشات، وتمكنت من كسر «توافق الآراء» داخل هذه اللجنة على قرار بطرد مصر من عدم الانحياز، بعد أن تكتل معنا نحو 17 دولة، في مقابل 20 دولة أخرى ضدنا. وكان تقرير اللجنة الذي قدمه رئيسها إلى القمة يماثل ما صدر عن المجلس الوزاري في سريلانكا، بأن الأغلبية تؤيد تعليق عضوية مصر في الحركة، ولكن هناك أقلية معارضة، وهذا كاف لنسف توافق الآراء. الوفدان السوري والفلسطيني، كانا في غاية القسوة ضد مصر في هذا المؤتمر، وراح ممثل فلسطين يؤلب الوفود ضدنا، ويشرح لهم ما يزعمه من تخلي مصر عن القضية الفلسطينية. كان بارعاً في هذا الأمر. لكنني أذكر أنه بعد أن انتهى من كلمته ذهبت إليه. وقفت أمامه وكان صديقي، وسلمت عليه ورحبت به، فرد السلام وقال لي«لا تؤخذنا يا أخ عمرو.. الموضوع ليس شخصياً.. وهي السياسة كما تعرفها».. فتعمدت أن أقهقه بصوت عال في جلسة هادئة للغاية، فالكل نظر إلينا، وتم تصوير هذه اللقطة وأنا أضحك مع ممثل فلسطين، الذي خسر كثيراً جداً من مصداقيته بهذه اللقطة؛ ودار همس ضده بين الوفود، وكيف أنه يشتم مصر ثم يضحك مع عمرو موسى في الجلسة. وربما يسهران معاً. وانتهت المناقشات التاريخية في اللجنة السياسية الوزارية بالفعل بعدم إصدار توصية متعلقة بوضع مصر، ولكن بتقرير أن الأغلبية لمصلحة الطرد، والأقلية غير موافقة. موقف تاريخي لكوبا وصلنا جلسة افتتاح القمة على مستوى رؤساء الوفود، والمذاعة على مختلف إذاعات وتلفزيونات العالم. شن حافظ الأسد، وصدام حسين، وعدد من العرب، وبعض الدول الأخرى هجوماً كاسحاً ضد مصر. كان رئيس الجلسة هو الرئيس الكوبي كاسترو، وكان بطرس غالي يترأس وفد مصر وعصمت عبد المجيد وأحمد صدقي، وأنا، وآخرون خلفه. أثناء الهجوم علينا سألني غالي: متى سنتحدث؟ قلت: أمامنا وقت طويل جداً.. ودورنا ليس في الجلسة الافتتاحية. قال: وما العمل إذاً؟ قلت: دعني أجرِ محاولة لاقتناص دقائق في هذه الجلسة الافتتاحية التي تسلط عليها الأضواء. توجهت إلى سكرتير عام المؤتمر، وهو المندوب الدائم لكوبا لدى الأمم المتحدة آنذاك «ريكاردو ألاركون»، وأصبح بعد ذلك رئيساً لمجلس النواب في بلاده، وكانت تربطني به علاقة طيبة. صعدت إلى المسرح الذي يجلس عليه كاسترو وعلى يمينه وزير الخارجية وعلى يساره ألاركون. القاعة صامتة ورزينة فهي مملوءة بالرؤساء. همست في أذن ألاركون: أنت ترى الهجوم الكاسح على مصر.. نريد أن نتحدث في الجلسة الافتتاحية. رد من دون تفكير: «very difficult» صعب جداً. قلت: اسمعني. أنت كوبا، ونحن مصر أقدم دولة عربية لكم علاقات معها. لا نريد منكم أكثر من حق الرد في موعد مناسب. قال: ماذا تقصد بموعد مناسب؟ قلت: في هذه الجلسة، وبناء على نقطة نظام إذا أردتم. قال: سأحاول.. وسأرسل لك رسالة بالرد. عدت لمقعدي. قلت لغالي احتمالات منحنا الكلمة موجودة، ولكنها لا تزيد على 50%. جهز نفسك للرد متى يجيء، فاستعد الرجل. انتهت قائمة المقرر لهم الحديث في الجلسة الافتتاحية، وإذ بكاسترو بصوته ذي الذبذبات الخاصة يقول: أدعو رئيس الوفد المصري ل«نقطة نظام»، وهنا قام غالي بالرد على من هاجمونا بلغته الفرنسية الرشيقة فأفحمهم. في المساء كان الوفد يجتمع على العشاء للحديث عما سنفعله في الغد، وأذكر في هذا الوقت أن محمد كريم العمراني وهو شخصية مغربية كانت مقربة من العاهل المغربي الراحل، الملك الحسن الثاني، وشغل منصب رئيس الوزراء وكان ضمن وفد بلاده في القمة، وقد جاء لمقابلة بطرس غالي مرتدياً «شورت وبرنيطة ونظارة سوداء في المساء» حتى لا يعرفه أحد، وعمل الشقيق المغربي على تقليل التوتر في حديثه مع بطرس، وتأكدنا منه بأنه لن يكون جزءاً من أي «أوركسترا» ستعزف ضدنا. الواقع أننا في هذا الوقت كنا كسبنا المعركة في اللجنة السياسية، التي انتهت من دون توافق على قرار بطرد مصر من عدم الانحياز، كما كسبنا معركة إعلامية مهمة بالرد على الهجوم علينا في الجلسة الافتتاحية المذاعة وسنلعب بنفس الطريقة في القمة حتى لو تحايلوا بأي شكل من الأشكال. في اليوم التالي تحايلوا فعلاً وطلبوا انعقاد مكتب المجلس الذي يضم العراق وسوريا وليبيا، وقالوا: لو خرجنا من الاجتماع ومصر باقية في الحركة سنخرج منها، ولابد من صدور قرار بطردها. أطلعني «ألاركون» على ما يدفع العراق وسوريا في اتجاهه، قلت له: استخدم أعنف لغة تريدها ضدنا ولكن بدون قرار، وأبلغت بطرس بكل ذلك فوافق عليه. عاد «ألاركون» إليّ ثانية وقال: اللهجة العنيفة ليست كافية. قلت له: بإمكانك تحويل الأمر حتى يهدؤوا إلى مجموعة عدم الانحياز الوزارية في الأمم المتحدة لمتابعة هذا الموقف واتخاذ توصية، وإذا كانت الأمور صعبة حدد موعد الاجتماع بالضبط، ولكن لا قرار من هافانا، أو توصية، وإنما تقرير عادي يحوي القرارات ويلخص المناقشات، خاصة أن وزراء الخارجية سيكونون هناك بالفعل بعد أيام لحضور اجتماعات الجمعية العامة، وهو ما حدث بالفعل، وتحول الأمر بالفعل إلى الأمم المتحدة، وهناك تصدى لهم مندوب مصر الدائم عصمت عبد المجيد، ولم يستطع أحد إخراج مصر من حركة عدم الانحياز.. وانتهى الأمر. تحدث معي أحد وزراء الخارجية في أمريكا اللاتينية فيما بعد ذلك بسنوات، بأن مندوب كوبا في اجتماعات مجموعة عدم الانحياز من الدول اللاتينية خلال قمة هافانا ذكر لهم أن مصر لن تطرد من الحركة في هافانا. اغتيال الرئيس السادات في سبتمبر / أيلول  1981 انتقلت للعمل في نيويورك نائباً للمندوب الدائم لمصر في الأمم المتحدة، عصمت عبد المجيد. وفي فجر 6 أكتوبر / تشرين الأول بتوقيت نيويورك اتصل بي صحفي أمريكي قائلاً: «حدثت مذبحة في القاهرة في عرض عسكري. جرح أناس كثيرون ومنهم الرئيس السادات». بعده بقليل اتصل بي صحفي آخر وكرر الكلام نفسه، ثم اتصل بي صحفي مصري وقال لي: يبدو أن الرئيس السادات قد قتل. كنت أنا من يترأس الوفد المصري في الأمم المتحدة لأن عبد المجيد كان يؤدي مناسك الحج. اتصلت بوزارة الخارجية في السابعة صباحاً بتوقيت نيويورك (نحو الثانية بعد الظهر في القاهرة) لأسأل عما حدث في مصر، فوجدت تحفظاً في الرد؛ فطلبت مدير مكتب الوزير، وقلت له: أنا أسأل عن مصير الرئيس السادات، ولا أحد يجيبني، وأنا عندما أسأل عن هذا الأمر، فذلك ليس مرده الفضول الشخصي من جانبي، ولكن لأنه في حالة إذا ما كان الرئيس قد قتل فعلاً، فلابد وأن نرتب له حفل تأبين يليق به في الأمم المتحدة، وإذا بدأنا بهذه الإجراءات والترتيبات مبكراً سنستطيع عقد جلسة خاصة للجمعية العامة اليوم، ندعو فيها وفود الدول لتأبين الرئيس؛ ولذلك أرجو أن أحاط علماً بالأمر في ظرف ساعة على الأكثر. كلمت الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، فوجدته على علم بالتطورات التي وقعت في القاهرة، لكن لا علم له بمصير الرئيس السادات. قلت له: يبدو أن الأمر خطر، واحتمالات وفاة الرئيس السادات تبدو قائمة، وأطلب من الآن عقد جلسة خاصة للجمعية العامة لتأبينه، فوافق الرجل، وقال لي: سأبلغ مساعدي ليستعدوا لذلك، وسأكون على اتصال بك. في هذه اللحظة كلمني أحد السفراء من القاهرة، قال لي: أنا أتحدث إليك من مكتب الوزير، وأود أن أخطرك بأن الرئيس قد مات بالفعل، لكننا لا نريد إعلان ذلك الآن. قلت له: أنتم لا تريدون إعلان مقتل الرئيس الآن؟ لكنني أود أن أبلغك بأن هذا الأمر أصبح شائعة/‏ معلومة تدور في أركان العالم الأربعة.جلست أتابع التحضيرات لجلسة الجمعية العامة في مكتبي بمقر البعثة قرابة الساعتين، توافد خلالها كثيرون لتقديم العزاء، كان على رأسهم: جاكلين كيندي، وعمدة نيويورك، وشخصيات أمريكية رفيعة، وعدد من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين الموجودين في نيويورك بمناسبة دورة الجمعية العامة. في جلسة التأبين التي انعقدت في الثالثة عصراً كانت المفاجأة بالنسبة إلي هي أن مندوب «إسرائيل» طلب الكلمة. لم أشعر بالارتياح. كان بإمكاني ببعض المناكفات أن أمنع ممثل «إسرائيل» من التحدث، لكنني أردت أن تمر المسألة بهدوء، وأردت للجلسة أن تمضي في جو من المهابة التي تليق بالرحيل المفاجئ لرئيس مصر.  بعد أن انتهى من كلمته جاء مندوب «إسرائيل» مهرولاً في اتجاهي والكل ينتظر ما سيحدث، لكنني وقفت متوقعاً أن يظهر عواطفه الجياشة والواضحة بعناقي. طلبت من أحد الزملاء أن يلتقي بالسفير «الإسرائيلي» قبل أن يصل إلي بمترين، أو ثلاثة، ويسلم عليه ويعطله ولو لثوان تتراجع خلالها حماسته، وهو بالفعل ما تم، ثم مددت يدي بصلابة وسلمت عليه بطريقة رسمية. شعر الرجل بأنني غير مستعد لأن أذهب أبعد من ذلك، فشد على يدي وتمتم ببعض عبارات العزاء وعاد إلى مكانه.السادات بعتبر نفسه أكبر من الدبلوماسية المصرية كلها السادات كان يعتبر نفسه أكبر من الدبلوماسية المصرية كلها، ومن المواقف التي تدل على ذلك ما رواه لي بطرس غالي عندما ذهب إليه في استراحة الرئاسة على شط قناة السويس في الإسماعيلية بعد أن نجحنا في دحر محاولات «جبهة الرفض» من طردنا من حركة عدم الانحياز، أو تعليق عضوية مصر فيها. قال لي غالي: لقد ذهبت للرئيس السادات في استراحته بالإسماعيلية والسفن تمر من أمامه في القناة. كان يجلس على كرسي مثل كراسي «البلاجات»، وهو ممسك بغليونه الشهير. شرحت له كيف تصدينا لجبهة الرفض في كوبا، وأنا فخور بما حققناه، وما كان منه إلا أن أمسك بحفنة من التراب وقال لي: «عارف يا بطرس كل الكلام اللي أنت قلته ده، واللي قالوه ضدنا في كوبا مايساويش حفنة التراب المصري دي». بما معناه أن ما قمتم به أمر جيد، ولكن الأهم هو التراب الذي حررته بالحرب والسلام. كان السادات رجلاً جريئاً يقال له في العامية «باجس»، أي لا يهتز بسهولة، لكنه كان يستبد برأيه مهما حذره المحيطون منه. ويرى في أطروحات القريبين منه «مجرد كلام يقولوه ويعيدوه».. أما رأيه فهو الأصوب.

مشاركة :