تعود الملك عبدالله أن يعلن مواقفه معطيا للسياسة مبدأ، في وقت لا يعترف السياسيون لها بمبدأ غير المصالح. والمتابع لخطاب الملك عبدالله منذ كان ولياً للعهد يجده يتوجه للناس خاصتهم وعامتهم، على اعتبار أنه يخاطب ضمير الإنسانية. الضمائر الحية هي التي تستجيب للنداءات المخلصة أما تلك التي تتعامل مع مصائر البشر على أنها لعبة مصالح فإنها في العادة تتجاهل مثل هذه المبادرات. في نهاية شهر اغسطس عام 2001م وقبل أحداث 11 سبتمبر بحوالي عشرة أيام وجه الملك عبدالله وهو ولي للعهد آنذاك رسالة للرئيس بوش الابن على إثر انتفاضة الأقصى قال فيها بأن علاقة الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة وصلت إلى مفترق طرق، وأن الملك عبدالله إذا خير بين علاقاته بأمريكا ومصالح شعبه وأمته فإنه سيختار نبض الشارع السعودي. وقد تعامل الأمريكيون بجدية مع تلك التصريحات، وتبلورت مبادرة الرئيس بوش الابن بشأن الدولتين، وهي أول مرة تطرح فيها أمريكا مبادرة من هذا النوع وكان مقررا إعلانها في كلمة الرئيس الأمريكي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 11 سبتمبر 2001م، وبقية القصة تعرفونها. المملكة العربية تربطها مصالح استراتيجية بالولايات المتحدة الأمريكية، وهذه حقيقة وطالما أعلن البلدان عن اعتزازهما بتلك العلاقات، لكنها لم تكن يوما على حساب مصالح المملكة والأمتين العربية والإسلامية. شعرت بصمود الموقف السعودي وعدم رضوخه للمطالب الأمريكية من كتاب بوب ودورد The Commanders الذي نشر بعد حرب تحرير الكويت عام 1991م. أذكر أنني قرأت ذلك الكتاب بعد صدوره بسنتين في بريطانيا، وعرفت لأول مرة كيف قاوم الملك فهد المطالب الأمريكية بارسال جيوش للخليج حتى ثبت له أن شعبه في خطر، وعندها وافق على مضض منه رحمه الله ومن الملك عبدالله ولي لعهد آنذاك. عندها قلت كم ظلمنا القيادة السعودية وكم افترى عليها الصحويون آنذاك. وعندما يخاطب الملك عبدالله العالم محذرا من التدخل في الشؤون المصرية فإنه يعلم مدى خطورة الموقف، ومكانة مصر الاستراتيجية، وقد أثبتت الأحداث أن المملكة كانت دائما على حق في نصائحها للصديق الأمريكي ولكن أمريكا لاتسمع غير صوتها، ومن ذلك تحذير المملكة من تفكيك الجيش العراقي، وهو ما ندمت أمريكا لاحقا على ذلك القرار إذا أحسنّا الظن بنواياها، أما إذا وضعنا مجمل السياسات الأمريكية في المنطقة منذ 11 سبتمبر 2001م في الميزان فإننا سنجد بوضوح أن أمريكا تسعى لإثارة الفوضى في هذه المنطقة ليس لإعادة بنائها على القيم التي تؤمن بها في مجال الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وحرية التعبير، ولكن لتصل بهذه المنطقة من العالم إلى عهد القرون الوسطى، لأسباب سياسية وعقائدية. لكن العدل والمنطق لايضع أمريكا كلها في سلة واحدة فهناك من الأمريكيين من لهم توجهات تخالف نوايا المحافظين الجدد. وحتى لا يأتي من يذكرني بما قدمته أمريكا للعالم فإن التفوق العلمي والعسكري والاقتصادي الأمريكي لاينكره أحد كما أن العالم قد ارتبطت مفاصل اقتصادياته بالولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك فإنه ليس من السهل على أية دولة صغيرة كانت أو كبيرة أن تظهر عداءها لأمريكا وتهدد مصالحها دون أن تدفع ثمنا غاليا لذلك. وانبهارنا بقوة أمريكا لايعني التسليم بأنها لاتخضع لنواميس الخالق القادر على كل شيء. موقف بعض الخليجيين مما يجري في مصر مخجل جدا. وحدة أولئك النفر الذين يجترون حديث الشرعية إنما تعبر عن حجم خسارتهم الكبيرة بعد أن ظنوا أنهم اقتربوا من تحقيق أحلامهم، ولذلك رفعوا خطابا مضللا لعامة الناس وخاصة الشباب المتحمس معتبرين أن هناك مؤامرة لإبعاد المسلمين المصلين عن الحكم، وكأن من يحكم مصر الآن ليس مسلما، وكأن الأزهر لايمثل المرجعية الشرعية للمصريين، وكأن عاطفة ملايين المسلمين المصريين الإسلامية في كفة والأخوان المسلمين في كفة أخرى. وليس هناك مسلم أو إنسان تعمر قلبه مشاعر الرحمة إلا وشعر بالحزن على الدماء التي أريقت، سواء من العسكريين المصريين أو من الإخوان والمتعاطفين معهم. إن احتدام الأحداث في الشارع المصري تدل على أن النور في نهاية النفق يزداد وضوحا، ويقيني أن مصر سوف تنتصر، وأملي مخلصا أن يستفيد الإخوان المسلمون من التجربة وأن يعملوا وفق التنافس السياسي بين الأحزاب دون احتكار الحقيقة. الإخوان المسلمون رقم صعب لايمكن تجاهله في الحياة السياسية والاجتماعية المصرية، ولكن ليس من المعقول ولا المقبول أن تبقى الجماعة على إصرارها بأنها الوحيدة التي تمثل الإسلام وأن معارضيها إنما يخالفون الدين. ولا يقنعني أحد بأن روبرت فيسك، وعزمي بشارة، وفريق قناة الجزيرة الإنجليزية على سبيل المثال، هم أحرص على مصلحة مصر ودماء المسلمين من المصريين أنفسهم ومن قادة الخليج. ولكن مصر الآن ملعب مفتوح كل يرمي فيه بسهمه لخدمة مصالح الجهات التي يمثلها.
مشاركة :