لم يكن إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، توقيع صفقة صواريخ الدفاع الجوي «S-400»، مع الجانب الروسي، فجائياً، فقد بدت مؤشرات التقارب التركي - الروسي، وفق ما يطلق عليه من قبل الأتراك «التوجه شرقاً» عديدة، وتتزامن مع حالة تتراوح بين النفور، والفتور، والتوتر، تكسو علاقات «شركاء الأطلسي»، حيث تركيا من جانب، وبعض القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، من جانب آخر.تمثل الصفقة بين الجانبين الروسي والتركي علامة فارقة في مسار متعرج، تدحرجت فيه علاقات الجانبين خلال السنوات الأخيرة بين ما يشبه «الصراع» بعد إسقاط الطائرة الروسية «SU-24» في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وما يشبه «التحالف» في ظل «الانسجام القيادي» بين الرئيس التركي، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، الذي ترتب عليه إقدام الرئيس التركي في 12 سبتمبر/أيلول 2017 إلى الإعلان عن توقيع صفقة إمداد تركيا بصواريخ الدفاع الجوي الروسية، التي تُظهر أن تركيا باتت أقل اعتماداً واحتياجاً لمظلة حلف الناتو العسكرية، وأكثر توجهاً إلى اتباع استراتيجية بناء القدرات الذاتية من أجل سد «الفجوات العسكرية»، التي تعانيها الإمكانات القتالية التركية، وسبق أن أفضت إلى طلب المساعدة الدفاعية من دول الحلف، على النحو الذي بدا واضحاً في السجالات الخاصة داخل الناتو إثر إسقاط تركيا المقاتلة الروسية، وسحب ألمانيا وواشنطن بطاريات صواريخ الباتريوت من داخل الأراضي التركية.ويبدو من ذلك أن أنقرة باتت تتجه بعيداً نسبياً عن أطر التنسيق وآليات التوافق داخل الحلف، فالصفقة التركية، من جانب، تأتي مع دولة يتخذ الحلف حيالها مقاربات صراعية على أكثر من مسرح عمليات، سواء في البلقان، أو البحر الأسود، أو الشرق الأوسط، كما تجسد الصفقة العسكرية، على جانب ثان، نمط توجه القيادة التركية لإعادة هيكلة القوات التركية بعيداً عن منظومة الناتو، في مسار لا ينفصل عن عملية إبعاد وتغيير الأطقم والقيادات العسكرية التي تمثل تركيا لدى الحلف، لتتشكل دلالة رمزية على حسم «الصراع الداخلي» في الجيش بين القوى الداعية للحفاظ على الروابط التقليدية مع القوى الغربية، والاتجاهات التي تتبنى بناء جسور لعلاقات عسكرية مغايرة مع القوى الآورو- آسيوية، عبر أطر وآليات من ضمنها الانضمام إلى «منظمة شنجهاي للتعاون».وقد أشار رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي، فلاديمير جيرينوفسكي، إلى أن أردوغان طلب منه شخصياً دعم جهود تركيا للانضمام إلى منظمة شنجهاي، مؤكداً أن ثمة احتمالاً لمغادرة تركيا الناتو.يرتبط ذلك بمحركات عدة من ضمنها، تصاعد التوتر التركي - الغربي، بسبب الانتقادات الغربية المتواصلة لملف تركيا في مجال حقوق الإنسان، وتحميل أنقرة للقوى الغربية مسؤولية محاولة الانقلاب الفاشل في يوليو/تموز 2016، على النحو الذي انعكس في مظاهر عدة، من ضمنها تلويح المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالين، بأحقية تركيا في اتخاذ قرار بغلق قاعدة أنجرليك الجوية، القائمة في ولاية أضنة، جنوب تركيا، بحسب ذلك قرار سيادي. ولا تنفصل عن خلفيات توقيع الصفقة مع روسيا وسياقها حالة، التدهور التي بلغتها العلاقات مع العديد من القوى الأوروبية كألمانيا، التي أعلنت مؤخراً سحب قواتها العسكرية من قاعدة أنجرليك ونقلها إلى قاعدة «الأزرق» في الأردن، كما اعتمدت قراراً يقضي بتعليق تلبية كل الصفقات العسكرية مع الجانب التركي، في وقت أكدت فيه المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، استبعاد حصول تركيا على عضوية الاتحاد الأوروبي.ويساور القوى الغربية القلق من انعكاسات الصفقة التركية - الروسية. فعلى الرغم من إعلان الناتو أحقية تركيا في تأمين احتياجاتها الدفاعية، فإن العديد من دول الحلف عبرت عن القلق بشأن منظومة الصواريخ الروسية، التي لا تنسجم مع منظومات التسلح الخاصة بالناتو، وعدم إمكانية أن يشملها التنسيق العسكري والمعلوماتي مع الجانب التركي، وتعتبر العديد من التقديرات الغربية أن ثمة محاولة روسية لاستغلال «الغضب الأردوغاني» حيال السياسيات الغربية في الشرق الأوسط، من أجل إضعاف منظومة حلف الناتو، وإبعاد أنقرة عن مجالات التنسيق والتعاون في ما يخص مواجهة استراتيجيات التحرك الروسية على أكثر من مسرح عمليات دولي، وفي هذا الإطار قال يفجيني بوجينسكي، الجنرال السابق في الجيش الروسي، إن موسكو تعمل على تعزيز علاقاتها مع تركيا من أجل إبعاد الأخيرة عن الحلف الأطلسي.ولا تنفصل هذه المقاربة وما تجسده في إطارها صفقة منظومة «S-400» عما تشير إليه من تزايد احتمالات توقيع مزيد من الاتفاقيات العسكرية بين الجانبين الروسي والتركي، بالتزامن مع توجه دول الناتو إلى تقليص مستوى التنسيق والتعاون العسكري مع الجيش التركي، خشية تسرب المعلومات الأمنية الحيوية إلى الجانب الروسي، سيما في ظل عدم التناغم بين سياسات أنقرة وشركائها في الحلف في ما يخص قضايا تلامس التحركات الروسية على أكثر من مسرح عمليات، فضلاً عن توجهات تركيا المدفوعة بالرغبة في دخول عصر الصناعات الدفاعية. فالصفقة مع روسيا تتضمن التزامات بنقل التكنولوجيا إلى تركيا، التي تفتقد الخبرات البشرية والكوادر القتالية المؤهلة للتعامل مع مثل هذه المنظومات، بما يفتح مجالاً واسعاً للجانب الروسي لإرسال مدربين وكوادر ومستشارين عسكريين إلى تركيا، وهو الأمر الذي ينقل مركز التأثير العسكري تدريجياً من حلف الناتو إلى الجانب الروسي، الذي يعتبر بدوره أن هذه الصفقة تخدم مصالحه الاستراتيجية، ليس على الصعيد الثنائي مع أنقرة وحسب، وإنما على الصعيد الدولي في ما يخص مواجهة تحركات الناتو في مناطق الجوار الروسي.ويبدو أن موسكو تدعم «انقلاب أردوغان» على سياسات تركيا حيال الغرب. فقد كادت أنقرة توقع صفقة مع الجانب الصيني لشراء منظومة دفاع جوي، غير أن الضغوط الغربية حالت دون ذلك، بيد أن مسارات التصعيد التركي - الغربي حالياً، وتوالي مظاهر تحسن العلاقات مع موسكو، دفعت الرئيس التركي، إلى تأكيد أن ثمة دولاً أزعجتها الصفقة مع روسيا، لكونها تدعم قدرات تركيا العسكرية، وبسبب رغبة أنقرة في تصنيع الأسلحة بطاقات وكفاءات محلية، مشيراً إلى أن «أنقرة تخطو خطوات مهمة لتعزيز قدراتها الدفاعية، وهناك جهات دولية أبدت استياءها من هذه الخطوة، غير أننا سنتخذ كل التدابير اللازمة لحفظ أمن ومصالح تركيا».ويبدو من ذلك، أنه في الوقت الذي يؤكد فيه الجانبان التركي والغربي معاً، أن مستقبل عضوية تركيا في الناتو ليست محل تساؤل، فإن أنقرة تتخذ خطوات فعلية وإجراءات عملية تؤكد أنها تتوجه تدريجياً لتبني المسار المعاكس.محمد عبدالقادر خليل ** مدير برنامج تركيا والمشرق العربي - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
مشاركة :