اليوم الأول في البندقية، تبين لنا، زوجتي وأنا، أن المدينة العائمة على المياه كثيرة على موازنتنا، وأن علينا أن نختصر الإقامة. في اليوم الثاني شعرنا أن هذا المتحف العائم لا يقدر بثمن. قطع نادرة في الأرض، شوارعها من المياه ومبانيها من فنون التاريخ وروايات العصور. ليس من دون سبب جاء إليها الشعراء والمفكرون والنبلاء. إلى هذه الشبكة من القنوات والقصور المعلقة جاء اللورد بايرون ليكتب أجمل قصائده. ولها، وللجندول غنى عبد الوهاب من شعر علي محمود طه. وأما غوته فقد قال إنها «سوق بلاد الصباح والمساء». ومع ذلك فهي مدينة متوسطة تستطيع عبورها من طرف إلى آخر مشيا أو في جندول صغير يصفر بحاره للهواء ولركاب المراكب الأخرى. ودليل المدينة لا يفوته أن يذكر لك أنها تعلو سبعة أقدام عن سطح البحر، يشقها «القنال الكبير» الذي تتفرع عنه 177 قناة صغيرة، ويقوم على ضفتيها 200 قصر من أيام كانت البندقية إحدى إمارات العالم الكبرى. مدينة لا ترى فيها العجلات إلا في ألعاب الأطفال. لا سيارات هنا ولا حتى دراجات. هنا لا يجد رجل الأعمال سيارته عند الباب. وعلى ربة المنزل أن تستقل الجندول إلى البقال والمزين. والتلامذة يتخذون طريقا معقدة من الجسور والأزقة الجانبية للوصول إلى مدارسهم. لا شيء سوى المياه والمزيد من المياه. لكن في مراحل ماضية حول الطمي هذه الطرق المائية إلى طرق عادية، غير أن المدينة فقدت رونقها و«سرها»، فأعيد تفريغ القنالات جميعها. ألا يكفي أنها لم تعد جزيرة كما كانت في الماضي؟ هكذا حدث لمدينة صور اللبنانية، (وليس العمانية). فبعدما كانت جزيرة منعت الإسكندر الكبير من الوصول إلى أسوارها، ردم الطمي القادم من النيل البحر من حولها، وجعلها جزءا من بر لبنان. كل مدينة لها خور وفيها قنوات لقبت بالبندقية. أهم من حمل اللقب كان سانت بطرسبرغ (لينينغراد) التي سميت «بندقية الشمال»، بين ألقاب أخرى، منها «تدمر الشمال». كذلك عرفت المدينة التي بناها القيصر بطرس الأكبر دراميات البندقية في النجاحات والمآسي. وكما صدت موسكو مطامع نابليون صمدت المدينة متغيرة الأسماء ضد حصار دام 900 يوم في الحرب العالمية الثانية وفي وجه مطامع هتلر. موسكو احترقت ولينينغراد جاعت. لكنْ كلاهما لم تهزم. غير أن ما عانته لينينغراد لا يطاق حتى في التخيل. لقد استخدمت زلاجات الأطفال لنقل الجثث والمرضى. ومثل البندقية الأم في الجنوب، تعد سانت بطرسبرغ متحفا من أهم متاحف الأرض. إلى اللقاء..
مشاركة :