والسؤال يثار اليوم مع تكرار التصريحات التي يطلقها بعض قادة حماس عن «نصر» يتحقق ضد العدو الصهيوني في الحرب الدائرة على غزة، وقبلها تواتر أحاديث بعض الأنظمة العربية عن انتصارات تنجز لتطويع شعوبها وردها إلى بيت الطاعة، متوسلة يافطة التصدي لإرهاب إسلاموي متشدد بدأ يتمدد ويهدد وجه المنطقة واستقرارها. ومع حفظ الفوارق النوعية بين الحرب الخارجية والحرب الداخلية وفي ضوء النتائج المؤلمة الناجمة عن كلتيهما، بات من الضروري والملح كشف مثلبين مهمين لا يزالان يحكمان العقل السياسي العربي في قراءته لمعاني النصر والهزيمة، ويغدو التغاضي عنهما أشبه بخيانة للعقل أو انجرار عن حسن نية أو سوئها وراء ما يروج من أضاليل. أولهما، هي علامة مسجلة لصلحة القادة والحكام العرب بأنهم يتنكرون لإخفاقاتهم ويتفننون في اختلاق الذرائع للهروب من الاعتراف بهزائمهم، فالسلطة عندهم ليست واجباً ومسؤولية، بل قهر ووصاية وامتياز، والإقرار بالخطأ ومواطن الضعف أو بالفشل قد يهز هذه الأركان الثلاثة ويعرض الهيبة والسطوة للضياع، وبعبارة أخرى يتطلب التغني بالانتصارات رفض الاعتراف بالنتائج والخسائر التي تخلفها الحروب، وأهم سبيل، تعظيم أهداف العدو للتدليل على فشل الحرب في تحقيقها، فالقول مثلاً بأن الصراعات الدموية الدائرة في غير بلد عربي هي مؤامرة عالمية غرضها النيل من النظام الحاكم، يعني أن «النصر» قد تحقق بمجرد النجاح في الحفاظ على ذلك النظام وتمكينه، وكلنا يتذكر كيف سارع «مدعو النصر» بعد حرب حزيران (يونيو) 1967 للتستر على فضائح الهزيمة وتحلية مرارة احتلال مزيد من الأرض العربية بنصر موهوم عنوانه فشل العدوان الإسرائيلي في تحقيق هدفه الأساس وهو إسقاط النظامين الراديكاليين في سورية ومصر؟! وتكرر السيناريو ذاته عام 1982 حين فقد النضال الفلسطيني أهم حضور سياسي وعسكري له بجوار دولة اسرائيل، حيث سعى «أصحاب النصر» إلى إقناع أنفسهم قبل الآخرين بأن ما حصل هو «انتصار»، ما دام المفاوض قد نجح في إخراج قادة المقاومة وكوادرها أحياءً من بيروت! وعاد المشهد إلى الحضور عام 1992 عندما وجد النظام العراقي في اندحار قواته من الكويت، وبرغم ما تكبدته من خسائر ودمار ثم حصار وتنكيل، انتصاراً لـ»أم المعارك» طالما لم تتمكن الجيوش الأجنبية من إسقاط السلطة العراقية وقـــتل أو أسر قائدها. كذلك كان «النصر» في حـــربي لبنان 2006 وغزة 2008 على رغم أن شروط وقف النار جاءت في مجملها لمصلحة العدو الصهيوني، واليوم يتكرر خطاب «النصر البافلوفي» نفسه من دون اهتمام بتراجع سياسي وإنساني فلسطيني بدأ يلـــوح في الأفق، قد لا تحد منه القيمة العظــيمة لصمود الشعب الفلسطيني في مواجـــهة آلة فتك ودمار لا تنضب. ومن القناة ذاتها يمكن النظر إلى الأنظمة العربية وهي تتغنى بالانتصارات ضد شعوبها حتى لو كان الثمن خراب البلاد والعباد، وحتى لو شكلت هذه «الانتصارات» الوجه الآخر لهزيمة الأوطان وانكسار المجتمعات واقتصر معناها على تشبث نخب عربية بمواقعها لتحكم بالحديد والنار شعوباً محطمة ومفجوعة! النقطة الثانية، هي توافق الأنظمة والقيادات العربية على أن لا تقيم وزناً لحياة الناس ولما شيد من عمران عند خوض حروبها أو صراعاتها، مستسهلة التضحية بكل ما حولها لقاء استمرار تسلطها وامتيازاتها. لم لا، ما دامت قد نصبت نفسها بالقوة والإرهاب وصياً على المجتمع وخياراته ونجحت في تغذية الإحساس لدى الشعوب بأنها قاصرة أو دون سن الرشد، عاجزة عن اتخاذ القرارات السليمة وتحتاج إلى راعٍ لمصالحها؟! ولم لا، طالما ليس مسموحاً لأي كان أن يسأل ويحاسب عن مردود ما دفعه العراق لقاء حروبه المتعددة، وعن الجدوى مما يحل بسورية من خراب وضحايا، وأين صرفت فاتورة الحروب اللبنانية أو الفلسطينية؟! أو أن يسأل اليوم حركة حماس مثلاً عما أنجز في الحرب الدائرة لقاء الضحايا والخراب، فالردود جاهزة ومتنوعة، كالاتهام بالجبن والتخاذل، أو بعدم احترام حقيقة أن الشعوب لا بد من أن تقدم تضحيات عظيمة لقاء تحررها، وربما بالمبالغة مثلاً في إظهار قيمة قتل أكثر من ستين إسرائيلياً، حتى لو سقط مقابلهم آلاف الشهداء والجرحى الفلسطينيين، لنقف أمام مفارقة تدعو إلى الأسف والخجل في آن معاً عندما لا يقيم طرف أي وزن لحياة أبنائه ويجرهم إلى صراعات دموية كي يفاخر بإيقاع بعض الأذى والألم عند طرف آخر يقدر عالياً حياة مواطنيه! واستدراكاً نسأل، إلى متى تبقى مجتمعاتنا تحت رحمة قادة وحكام يستهترون بالحياة ولا يتقنون سوى منطق القوة واستخدام أكثر الوسائل وحشية وانحطاطاً لتثبيت الوضع القائم وتحقيق «انتصاراتهم»! وإلا ينسحب هذا المنطق على العقل المعارض الذي لا يزال يحمل الأمراض ذاتها ويسوغ التضحية بالإنسان وحقوقه على مذبح رؤية إيديولوجية أو هدفاً سياسياً؟! ولا يقصد هنا فقط التنظيمات الاسلاموية المتشددة التي تستبيح كل شيء في طريق فرض سطوتها ونمط حياتها، وإنما أيضاً بعض أصحاب المبادئ العليا الذين سرعان ما انزلقوا إلى أتون العنف ولغة المكاسرة والغلبة واستسهلوا باسم المبادئ العليا ذاتها، تقديم القرابين البشرية من دون حساب! والحال، لا تقوم الإدارة الناجعة للحروب والصراعات على الاستهتار بحياة البشر وحقوقهم بل بتمثل دروس التاريخ جيداً والتطلع لبناء مجتمعات ديموقراطية تحرر إرادة الانسان من طغيان الإيديولوجية وغطرسة المصالح الضيقة، كشرط لازم وحيوي لمواجهة مختلف التحديات، ومن دون ذلك ستبقى مجتمعاتنا كمن تدور في حلقة، لكنها ليست مفرغة، بل مليئة، في كل مرة، بالضحايا والآلام والمعاناة المجانية.
مشاركة :