لفتت الشاعرة الفلسطينية نعيمة عماشة انتباهي لقدرة قصيدة النثر على نقل الهاجس الفكري والفني، بكل رونقه الشعري وقوته، وبمستوى لا يقل أصالة عن الإبداع الشعري الموزون التقليدي أو الحديث. وأكثر ما لفت انتباهي لديها كان موقف اللبؤة المقاتلة ليس شعريا فقط، وانما اجتماعيا أيضًا، ورغم بعض حالات الانهزام واليأس التي تعتريها وهي تقاتل وتصرخ في معركة رد الاعتبار لمكانة المرأة ودورها، فإنها تبقي أحد الاصوات القوية والمهمة فنيا وموقفا. وربما هذا هو السبب في اختيارها عنوانا لديوانها الشعري: "يمام ورصاص" وليس بالأمر الغريب أيضا، اننا نلتقي في ديوانها، ليس مع شاعرة ترسم بالكلمات فقط، بل وشاعرة ترسم بالريشة أيضا، ومعظم لوحاتها نسائية وكأني بها تدرس المرأة بتفاصيلها، وبحالاتها النفسية المختلفة، لتوصل للقارئ ما لم توصله بالكلمات، أو لتكمل بعض اللمسات الجمالية، التي لم تسعها الكلمات، وربما لتثبت لنا بالرؤية أيضا، الى جانب الكلمة .. جمالية المرأة، واكتمالها وتناقض ذلك مع الواقع الكئيب للمرأة في مجتمعنا. في مقدمة ديوانها (الاهداء) تكتب نعيمة: لكل يمامة بيضاء تطير أو تحاول الطيران في وجهها الشمس وفي باطنها الدماء لكل يمامة بيضاء تبتلع رصاصة وتواجه الإعصار فيها جناح مكسور أو جناح يوشك على الانكسار لكل بندقية وتواصل صرختها وكأني بها ترثي واقعها وواقع نسائنا العربيات: لكل يمامة ماتت في الطريق وتموت تحت النعال لكل يمامة في الجوف لديها قنبلة موقوتة وتربطها بأصابع الديناميت أسلاك وأسلاك وتضيف بروح التمرد، وروح يلامسها بعض اليأس وبعض الاحتجاج: لكل يمامة خرجت من ثوب الفضيلة حين قرأت كتابا وأصبحت عارا حين قالت لا. وتواصل بتحد: لم أعد يمامة فاعذروني أفضل أن أكون الغراب وتنهي مقدمتها المثيرة، التي رأيت أهمية لتسجيلها، لما تحمله من دلالة على روح الشاعرة وروح شعرها وحلمها الشعري: أحاول يا سيدي عبدالحميد لكن الرحلة بين الكلام والصمت قيد من حديد زالت دولة الحريم يا عبدالحميد وذهب كلا فصرت أجزاء من كل شرقي عنيد إهداؤها يقول كل شيء من ناحية الموقف. فهي صرخة في وجه المجتمع الذكوري، مجتمع جزَّأ مفهوم الانسان فأعطى للرجل بلا حساب، وحرم المرأة بلا حساب، حتى حولها الى شيء يمتلكه الرجل. ان مجتمعنا ممزق ومجزَّأ في كل مركباته وتصرفاته، وبلوحات وصور شعرية، تنجح نعيمة في إيقافنا أمام حقيقة حياتنا، أحيانا حقيقتنا المشوّهة بين ما نقول ونصرح، وما نرتكب من تجاوزات توازي الجريمة أو تتجاوزها ، ولكن لا يعاقب عليها القانون، باعتبارها من "قيمنا الشرقية الأصيلة" التي نفاخر بها، ولأن القانون، في الدول الديمقراطية أيضا، يتدخل عندما يرى أدلته الحمراء فقط .. لون الدم. نعيمة أحيانًا غاضبة، وأحيانا يائسة، وأحيانًا ساخرة .. حتى نكاد نشعر بسخريتها تنخر عظامنا. الرجل انسان، اما المرأة فشيء يملكه ذلك الانسان، هي ما دون الإنسان ... إن مأساة التجزيئية في مجتمعنا تطول أبسط الأمور، ليس فقط الحق في إبداء الرأي، بل حتى الحق في اختيار الحذاء. إن مفاهيم الحرية مثلا هي مفاهيم ذكورية. فالحرية المنشودة هي حرية الرجل ووصوله للسيطرة والقرار وحق المضاجعة المشروعة وغير المشروعة ويظل قيما على الشرف. والمرأة ضرورية من أجل أن يصل الرجل إلى مبتغاه، بعد ذلك يصبح دورها مخلا بالأمن الاجتماعي لمجتمع الذكور، الذي يكتفي باختيار نموذج نسائي لمقتضيات الزينة، ولإظهار تقدميته، ربما يكون خطأ المرأة الكبير والأول قدومها للحياة، كونها امرأة هي الخطيئة الأولى، وكل تصرف لها يفسر بإطار الخطيئة الاولى. ومع ذلك المجتمع الذكوري يحتاج المرأة، هذا يذكرني بقول (منسوب) لعلي بن أبي طالب: "النساء شر كلهن وشر ما فيهن الحاجة اليهن". ولا ضرورة لتفسير نوعية الحاجة التي أبدعت هذا القول! وها هي نعيمة تصرخ، فهل من يسمع صوتها، صوت المرأة وينصفها؟: لكل يمامة بيضاء ترفض هديل اليمام وترفض الأعشاش المعلقة فوق أصابع السلطان. وما أكثر السلاطين عندنا .. القيمون على النساء .. قيمون على فروجهن فقط!! وربما السعادة الأساسية لنعيمة أنها تفهم قوة الكلمات، وتعرف بداية المأساة النسائية.. الكلمة والصوت والحركة .. فتقول في قصيدة "عفوك أوسع": ذنبي الاول أني امرأة ثم ذنبي أني لم أولد خرساء ولم أولد مقعدة لا زلت أذكر هجوم البعض على شعرها المنثور، وقد قرأت بعض "النقد" الذي حاول الغاءها، واليوم عندما أقرأ ديوانها، حتى لو لم يكن شعرا وأدبا في مفاهيم البعض، الا انه أرقى من كل الخربشات الموزونة والفارغة من الحس الإنساني والمضمون الفكري. أقول هذا وأنا على قناعة أن نعيمة أبدعت أدبا راقيا ومسؤولا. إن محاولة إنزال الستار على شعرها، هي محاولة لإعادتها للزنزانة ولسلبها حريتها، حرية الكلام، حرية التفكير، حرية الرسم، حرية الكتابة، حرية أن تكون امرأة بقامة منتصبة وحقها أن تكون نموذجا نسائيا طلائعيا. لذلك نجد أن الطابع الذي حكم "نقد" ديوانها، اراد بأحسن الأحوال تحويلها الى قطة مدللة، تكتب ما يرضي العنجهية الذكورية. والذين ذهبوا لإلغاء إبداعها الأدبي تصرفوا بلا وعي، لخطورة التجزيئية في مجتمعنا. ربما حركتهم الغريزة الذكورية .. بحيث يبدو تصرفهم في منتهى البساطة نقدا أدبيا". ولا أريد أن أقول في منتهى المنطق، احتراما لما تبقى من قيمة لهذه الكلمة. الديوان يمتد على مساحة 130 صفحة من الحجم الكبير، ويحوي ما يقارب الـ 50 قصيدة. ذنوبي كثيرة وعفوك أوسع ذنوبي كثيرة يا ذاك الذي لا يذنب كلمات واضحة ومباشرة، ولكنها مليئة بالحس المرهف والسخرية، ولا تحتاج لمجهود للتفسير، مليئة بالحلم الشعري وبلا ضرورة للعروض والبحور. ونعيمة بفهم لحقيقة الواقع الاجتماعي، تحاول أن لا تكون مجرد مقاتلة، تهاجم وتصرخ. بل انها تدرك قيمة الموقف الفكري أيضا. وضرورة إلغاء التجزيئية والنفاق، وبناء علاقة إنسانية فتقول في قصيدة "ضيعتني": ضيعتني وقد لا أكون بعينيك حسناء ضيعتني وقد لا أكون من الامراء ضيعتني وقد لا أكون في العشرين لكن... ضيعت سيدي امرأة تهواك!! وفي قصيدة أخرى تعلن: إن قلبي بين يديك انتحر وإن عيوني بكتك وإنك زرعت في صدري حكم القدر ديوان نعيمة سهل القراءة وممتع في نفس الوقت. ونلاحظ أن مبنى القصيدة لديها أصبح محكما أكثر من أعمالها السابقة المبكرة، وهو من النوع الذي اتفق على تسميته بالسهل الممتنع. لا أعتبر كتابتي هذه كتابة نقدية أو دراسة تحليلية، انما كتابة انطباعية، تأثرا انسانيا بإبداع أدبي وفكري يستحق الحياة، وتستحق قضيته أكثر من صوت مقاتل، وأكثر من الاقتناع برفض العبودية، وأكثر من التصريحات بأننا مع حرية المرأة. فقضية حرية المرأة تمس ليس قضايا المرأة تحديدا، انما كل واقعنا الثقافي والتربوي والاقتصادي والعلمي والتنويري. نعم كلنا نرفض العبودية، كلنا من أجل حرية المرأة، كثيرون منا يثبتون هذا بكلامهم بشعاراتهم، بكتاباتهم، بحديث الصالونات، أما في بيوتهم وممالكهم الخاصة؟ هنا المشكلة، هنا نعود الى عقلية الغاب. ديوان "يمام ورصاص" لنعيمة عماشة، ابنة الجولان المقيمة في قرية عسفيا، المعانقة عناقا أزليا لكرمل حيفا هو إبداع متميز ممتع، ويحمل قضية كبيرة، تخترق بها صمتنا وتستفزنا، وبالتأكيد تتجاوز مساحة اللغة الابداعية الجميلة، وتتجاوز الديباجة اللغوية التي باتت ظاهرة أدبية بلا مضمون في الكثير من المنتوجات التي أستصعب اعتبارها أدبا. نعيمة تمتعنا بلغة جميلة وفكر نقدي متقد، لا يتردد في مكاشفتنا بحقيقتنا المشوهة. يمام ورصاص .. نساء ورجال .. خاضعات ومتسلطون .. حكاية لها آلاف البدايات ونهاية واحدة. ويجب ان نغير هذه النهاية. • الشاعرة والفنانة التشكيلية نعيمة عماشة - جولانية المولد، تعيش بجوار كرمل حيفا في قرية عسفيا، أصدرت عدة دواوين شعرية، تعمل بحقل التربية والتعليم.
مشاركة :