نخب التنوير في تونس يقظة أشد ما تكون اليقظة، تستند إلى طبقة متوسطة قوية نسبيا وممانعة ثقافيا، وتستند كذلك إلى قاعدة نسائية متنورة عز نظيرها في سائر المنطقة.العرب سعيد ناشيد [نُشر في 2017/09/25، العدد: 10762، ص(9)] قبل أيّام مضت ألغت تونس كافة القوانين التي تقف حائلا دون زواج المسلمة بغير المسلم، وقبل أسابيع طرحت مبادرة قانون المساواة في الإرث بين الجنسين، وسبق لها قبل سنوات أن شرعت قانون تجريم التكفير في بند دستوري صريح عقب نقاشات عاصفة داخل الفضاء العمومي وتحت قبة البرلمان. جاءت كل هذه المبادرات الجريئة في سياق إقليمي ملبّد بغيوم الفتنة والردة نحو عصور وسطى جديدة، جاءت لكي تصنع الاستثناء التونسي. ليست نخب التنوير ومنظمات المجتمع المدني في تونس وحدها من دعمت تلك القرارات الجذرية، بل أيّدتها أيضا المؤسسة الدينية الرسمية، والتي لا أحد بوسعه أن يتهمها بالارتهان لاستبداد ما عاد موجودا. كثير من علماء الدين في تونس استدلوا بمقتضيات العصر وفقه العصر. وكفى بالعصر دليلا. لربما ثمة من يفضل مصطلح فقه الواقع، وكذلك قد نسمع غدا بعض متفلسفة الإسلام السياسي يتحدث عن فقه الحداثة. في كل الأحوال العبرة بالقوانين والتشريعات حين تكون واضحة الصياغة صريحة المعنى. هذا ما تفعله تونس بجرأة وإتقان. ربّ قائل يقول تلك أمور هامشية ليست ضمن الأولويات، أو ليست ضمن “فقه الأولويات” كما يحب أن يقول فقهاء المصطلحات، فنردّ بالقول، من همّش المرأة سيرى أمورها هامشية. ولدينا استنتاجات أولى بالفعل. في اعتقادي ثمّة ثلاث فرضيات انهارت انهيارا مدويّا: أولا، هناك فرضية أولى سادت لعدّة عقود من الزمن، مفادها أنّ الحداثة في دول العالم الإسلامي لا يمكن أن تكون سوى ثمرة فعل انقلابي ولاشعبي، طالما الشعوب المسلمة بحكم طبيعتها لن تؤيد أي قرار حداثي ولن تطالب به، اللهم إذا تم تغليفه بغلاف ديني. وهذا ليس متاحا دائما. تبقى تونس استثناء بكل المقاييس، لكنه الاستثناء الذي قد يكسر القاعدة أيضا، أو هذا هو المأمول كان هذا الاعتقاد يدفع بقوى الإسلام السياسي إلى المزايدة بثقة زائدة في النفس على قوى الحداثة قصد الاحتكام إلى رأي الشارع. والشارع هنا بالمعنيين المتلازمين في اللغة العربية: الشارع الذي يشرع للناس، والشارع الذي هو جمهور الناس. والحق يقال، كثير من قوى الحداثة وقعت في نفس الفخ، فابتعدت عن الشارع بمعناه الثاني. جاءت القرارات الأخيرة في تونس في لحظة موسومة بانهيار الاستبداد وتراخي قبضة الدولة، لكي تقوّض فرضيّة أن الحداثة لن تكون سوى اختيار لاشعبي. ثانيا، ثمة فرضية ثانية ارتبطت بالأولى مفادها أنّ الانتقال الديمقراطي لن يتحقق إلا على حساب الهامش الحداثي الضيق الذي تم الحصول عليه. لذلك ولكي لا نضيع الهامش الحداثي على ضآلته يمكننا تأجيل معركة الانتقال الديمقراطي. فرضية راهن عليها الإسلام السياسي أملا في توظيف صناديق الاقتراع للإجهاز على الهامش الحداثي الذي تم إنجازه. ثالثا، ثمة فرضية ثالثة سادت هي الأخرى لفترة طويلة مفادها أن رجل السياسة لا يستطيع أن يتحكم في عقول الناس إلا إذا ساير غرائز الناس حتى لو تعلق الأمر بالغرائز الأكثر بدائية. وتبقى النزعات الذكورية والعصبية الطائفية ضمن الغرائز البدائية لجمهور الناس والتي يجب على رجل السياسة أن يسايرها حتى يتربع على عرش قلوب الناس. انتهت هذه الفرضية إلى تدمير الحقل السياسي في العديد من المجتمعات. في زمن الردة الحضارية التي تضرب كالإعصار شعوب المنطقة، فتنكص بها إلى عصور القدامة القاتمة، وتدفع المرأة فاتورة غالية من كرامتها الإنسانية التي باتت تخسرها يوما بعد يوم، ويستسلم الجميع لغرائز الانحطاط التي بدأت تطغى على كل النواحي والأنحاء، تبقى تونس استثناء بكل المقاييس، لكنه الاستثناء الذي قد يكسر القاعدة أيضا، أو هذا هو المأمول. في غمرة الخريف الأصولي تصرّ تونس على أن تشقّ عباب الحداثة السياسية لكي تصنع الاستثناء. تونس أرض صغيرة بآمال كبيرة. نخب التنوير في تونس يقظة أشدّ ما تكون اليقظة، تستند إلى طبقة متوسطة قوية نسبيا وممانعة ثقافيا، وتستند إلى قاعدة نسائية متنورة عزّ نظيرها في المنطقة. تصدى المجتمع المدني التونسي لزحف ما سبق أن اصطلح عليه الشيخ راشد الغنوشي باسم “الإسلام الغاضب”، وهو إسلام غريب عن المجتمع التونسي. بل تصدى منذ وقت مبكر لجشع قناة الجزيرة التي دعمت تيار الإسلام السياسي وراهنت عليه بعد أن حصلت على الضوء الأخضر من بعض الدوائر الغربية. كانت الحسابات الدولية وقتها أن الإسلام السياسي الموصوف بالاعتدال هو الأقدر على احتواء الإسلام السياسي الموصوف بالتطرف، ولو من باب أن الدواء قد يكون من جنس الداء. لكن، بعيدا عن المعادلات الورقيّة، ليس كل دواء يمكن أن يكون من جنس الداء. وعلى سبيل المثال فإن دواء الجهل لا يمكن أن يكون من جنس الجهل. هذا ما تفهمه تونس اليوم. كاتب مغربيسعيد ناشيد
مشاركة :