راهنت تركيا على صعود «الإخوان المسلمين» في المنطقة بعد «الربيع العربي»، باعتباره رافعة أساسية لأدوارها الإقليمية، ووسيلة ممتازة لتجسير الفجوة القومية بينها وبين الدول العربية، وصولاً إلى إعادة تشكيل المنطقة على قياسها وقيافتها وتحت عباءة «الإسلام المعتدل» العابر للقوميات. وفي المقابل، استعمل الإخوان المسلمون الجسر التركي إلى الغرب في الحصول على الاعتراف الدولي بهم قبل «الربيع العربي»، ومغازلة الغرب بالإشارة إلى «النموذج التركي» الذي يفضله للدول الإسلامية. حتى ذلك الحين كانت الفوائد متبادلة بين الطرفين، فكان «النموذج التركي» نقطة تلاقٍ سياسية تكتيكية، وليست فكرية استراتيجية. ولكن مع انتصار التيار الإسلامي في الانتخابات البرلمانية التي أعقبت «الربيع العربي» في تونس ومصر، اعتبرت بعض رموز التيار الإسلامي في دول «الربيع العربي» أن حزب «العدالة والتنمية» التركي قدم تنازلات كثيرة بقبوله دستورا علمانيا بسبب التوازنات الداخلية، في حين إن الأمر يجب ألا يكون بهذا الشكل في دول «الربيع العربي». هنا بالتحديد تموضعت نتيجة مهمة، ربما لم تتوقعها تركيا، فبدلاً من فتح الأبواب العربية أمام تركيا وأدوارها باعتبارها نموذجاً يحتذى، كما كانت الحال قبل «الربيع العربي»، لم تعد التيارات الإسلامية الفائزة في الانتخابات البرلمانية بعد «الربيع العربي» تنظر إلى «النموذج التركي» بالضرورة باعتباره «ملهماً»، بل راحت تتبنّى أفكاراً وتصوّرات لا تخدم بالضرورة المصالح التركية في المنطقة. ونتيجة لانخراط تركيا المتزايد في «الربيع العربي»، وإسنادها تيار الإسلام السياسي في معركته الخاسرة لخلافة الأنظمة المنهارة، فقد تلاشى التفاهم الواضح لتجربة تركيا والتعاطف معها من قبل مؤيدين كثر في التيارات الليبرالية والقومية واليسارية. أصبحت تركيا بتحالفها الحصري مع التيار الإسلامي خصماً سياسياً لهذه التيارات، وليست نموذجاً بأي حال، حيث عادت هواجس الخمسينات والستينات لتطغى على مفردات هذه التيارات عند توصيف تركيا وأدوارها، ما مثل بالنتيجة، انحداراً بيّناً لصورة تركيا في الشارع العربي. وتدهورت صورة «النموذج التركي» أكثر فأكثر بعد الانخراط التركي المباشر في الأزمة السورية وتفرعاتها الطائفية المعلومة، والذي أفقد تركيا صورة القوة الإقليمية العلمانية في الشرق الأوسط. لذلك، ليس صعباً الاستنتاج بأن تركيا ربحت «صراع النماذج» قبل «الربيع العربي» بسبب نفور شرائح عربية واسعة من سياسات إيران الطائفية، ونفورهم الأشد من سياسات الاحتلال الإسرائيلية وعدم وجود نموذج عربي مقابل. بمعنى آخر، تقدم «النموذج التركي» على غيره من البدائل ليس لقوته الذاتية، وإنما بسبب النفور العربي من النماذج المنافسة وعدم توافر النموذج العربي. في المقابل، ربحت تركيا نسبياً من الحديث عن نموذجها القابل للاستنساخ في دول «الربيع العربي» وازدادت أهميتها الجيو-ستراتيجية لدى الغرب، بسبب ما اعتقدته العواصم الغربية من قدرات كامنة لتركيا على إعادة تشكيل أو ترويض جماعة الإخوان المسلمين. بعدها ظهرت أهمية وظيفية للحديث عن «النموذج التركي» في بلدان «الربيع العربي»، وسبب الأهمية هو محاولة بعض القوى الليبرالية وضع النخب الإخوانية أمام المقارنة المستمرة مع «النموذج التركي» بغرض تقبل إجراءات وأفكار أكثر ديموقراطية مما أرادت ومارست. لم ترغب تلك القوى في إزاحة «النموذج التركي» من موائد البحث كلياً؛ لأن ذلك كان سيعفي جماعة الإخوان المسلمين من عناء المقارنة النظرية مع «النموذج التركي». هنا تدهور استخدام «النموذج التركي» إلى مجرد ترمومتر لقياس مدى التزام جماعة الإخوان المسلمين بقيم المشاركة والتعددية والحريات المدنية، وهو ما رسبت فيه بامتياز. لم يخدم الحديث عن «النموذج التركي» وصلاحيته لدول «الربيع العربي» أغراضاً علمية؛ بقدر ما ساهم في طمأنة النفوس القلقة والمضطربة في الشرق الأوسط والغرب من نتائج التجربة الإخوانية على مجتمعات «الربيع العربي». قبل سقوط الجماعة بفترة قليلة تحول «النموذج التركي» ليؤدي وظيفة جديدة، وهي وظيفة تشبه وظيفة أقراص المهدئات، حيث ازدادت الحاجة إلى الحديث عن «النموذج التركي» مع وضوح الاندفاع الإخواني نحو الاستبداد، وهي حاجة ازدادت حتى الإطاحة بالجماعة في صيف عام 2013. ومع الإطاحة بالجماعة وتدهور وضعية تركيا المعنوية والجيو-سياسية لم يعد الحديث السياسي يتناول «النموذج التركي» بأي شكل من الأشكال، لا سيما أن التعديلات الدستورية التي اقترفها أردوغان العام الماضي ساهمت في إسدال الستار نهائياً على ما سُمي «النموذج التركي» الذي كان نجم النقاشات في المنتديات السياسية والفكرية في عالمنا العربي لسنوات معدودة.. سبحان من له الدوام! د. مصطفى اللباد
مشاركة :