تحدث الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام محفل الأمم المتحدة، فذكَّر بالثوابت الفلسطينية، وأعلن تمسكه بخيار السلام، ولم ينزل قيد «موقف» تحت سقف الحقوق الوطنية الفلسطينية التي عمادها الاستقلال في دولة، وتجليها الأهم استقامة الكيانية الفلسطينية من دون منازعة في هويتها، ومن دون افتراءات على تاريخها، ومن دون تزوير لوجود السكان الأصليين، أولئك الذين عمَّروا الأرض الفلسطينية طوال الحقبات التاريخية. الوضوح الذي نطق به الرئيس الفلسطيني أملته الظروف التي تمر بها قضية شعبه، وفرضته المواقف الدولية التي ما زالت تقف موقف المتفرج على الاستيطان الاستعماري اليهودي، هذا الذي يقضم ما تبقى من أرض لاحتمال دولة فلسطينية قابلة للحياة. وأما الوضع العربي الذي يعيش أسوأ سنخه السياسية حالياً، فقد جعل الشعور بالوحدة والاستفراد، هو الشعور الطاغي على عموم أبناء القضية الفلسطينية. هو وضوح إذن، في وجه جملة الظروف الدولية والإقليمية، والوضوح سلاح أساسي في أيدي الشعب الفلسطيني الذي يقدم دائماً، وهو على بيِّنة من أمره، ويبذل التضحيات، وهو على علم بأن اللحظة السياسية المحددة تتطلب البذل والعطاء. أن يضع الرئيس الفلسطيني العالم أمام مسؤولياته، فهذا منتهى مطاف سياسي، أي أن النطق به في شكل من أشكاله، رفض لسياسات هذا العالم حيال القضية الفلسطينية، كذلك فإن التمسك بما كان أعلنه المحفل الدولي، عن ضرورة حلّ الدولتين، فلسطين وإسرائيل، وتحقيق السلام بينهما، هذا التمسك إدانة لتقصير وعجز ونكوص «الدولي» عن القيام بواجباته التي حددها هو لنفسه، والتي اعتبرها كفيلة بتحقيق تسوية تاريخية، في منطقة الشرق الأوسط الذي ازداد التهاباً في السنوات الأخيرة. الوقوف عند الخيار السلمي من جانب الفلسطينيين، يحمل رسالة واضحة تقول إن الطريق الوحيد الذي تكون نهايته السلام، هو تنفيذ بنود هذا الخيار، يعني ذلك، أن الفلسطينيين ثابتون عند خيار وحيد لا رجعة عنه، وفقاً لكل مندرجاته، وبما يحقق مغزى الخيار ومنطوقه بلا مضمرات نكوصية، وبلا سياسات تآمرية التفافية تنتقص من حق الشعب الفلسطيني المجزوء الذي قبل به هذا الأخير، على رغم كل الإجحاف التاريخي الذي لا تزيله سطور الخيار «الواقعية» التي اختارها «الدولي» عنواناً لتدخله السياسي ولتحركاته التسووية. لقد أعلن الرئيس الفلسطيني تشكيكه بتنفيذ خيار السلام، من قبل رعاته، في معرض رفع الصوت بالمطالبة بتحقيقه، لكنه وهو يفعل ذلك، لم يقفل الباب أمام حل وحيد آخر، وهو نفض اليد من كل العملية التي احتفل بها «الدولي» ولم يتابع تطورها، فالفلسطينيون يملكون حق وإمكانية حل السلطة الفلسطينية التي تشكلت بموجب اتفاقية أوسلو، وهم قادرون على رفع تحدي وضع أرضهم مجدداً تحت بند «وصاية الاحتلال»، وبناء عليه، هم يملكون من الوسائل الكفاحية ما يجعلهم متمكنين من إدارة معركتهم السياسية بما ملكت سيرتهم النضالية، وبما تقدمه حيويتهم الشعبية، وبما صار لهم من خبرة وصمود، في وجه مخططات إسرائيل التوسعية والإلغائية. في معرض الحديث عن السيرة الفلسطينية تبدو كل العناوين واردة، وعند استعراض الخيارات المتاحة، ليس ميسوراً لقائلٍ أن يقول إن زمن هذا الشعار قد ولَّى، أو إن زمن ذاك الشعار قد فات، ولعل الأكثر دقة هو القول إن القضية الفلسطينية، بما هي قضية مفتوحة على الصراع، وبما أنها مسألة ما زالت أبواب حلّها النهائي مقفلة، هذه القضية تظهر على اتصال بكل البرامج التي اعتمدت بعضها فخاضت غمار سياساته، وتركت بعضها جانباً، لتعود فتنفض عنه غبار الزمن، بعد أن قالت التطورات كلمتها، وبعد أن شارفت الخيارات الموضوعة في النور على غروب الختام. في هذا المقام ليس مستغرباً القول إن الفلسطينيين عادوا شعباً تحت الاحتلال، وإن برنامجهم سيقوم من الآن وصاعداً على قاعدة هذه الحقيقة السياسية. كذلك ليس غريباً القول، إن الفلسطينيين عادوا إلى طرح مسألة دولة واحدة لشعبين فوق كل أرض فلسطين التاريخية، وأن لهم الحق في أن يتحركوا في ظل ذات القوانين، وأن تكون لهم نفس الوضعية التي للإسرائيلي الذي يصرُّ قادته، على أن دولته دولة يهودية فقط، لكنها دولة معتدية على التاريخ وعلى الجغرافيا، وعلى الحقائق الاجتماعية. قيل ذات يوم، إن الدولة الواحدة تعني قيام الدولة الفلسطينية فوق كل أرض فلسطين، وقد يكون الأمر كذلك، لكن ماذا يستطيع الشعب الفلسطيني الذي يريد أن يكون مع شعب مستوطن لا يريد لأي من «الأغيار» أن يكون؟ الجواب عند الدولي والإسرائيلي، فالفلسطيني بات أمام خياره الأخير.
مشاركة :