منذ إنجاز التسوية السياسية في 31 أكتوبر 2016 والتي أفضتْ الى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية ثم عودة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، لم يَسبق للواقع اللبناني أن عاش إرباكاً وارتباكاً مثل اللذين يسودانه هذه الأيام وسط «دخانٍ» سياسي كثيف يَتصاعد ملوّحاً باقتراب «احتراق» الحكومة سواء بانقلابٍ عليها يدفع باتجاهه «حزب الله» بالتكافل والتضامن مع حلفائه، أو بالإمعان في إحراج رئيسها وحلفائه بهدف إخراجهم بالاستقالة. وبين هذين الحدّيْن ترتسم عناوين إشكالية تنذر بإحياء خطوط الانقسام العمودي ولا سيما حيال التطبيع مع النظام السوري باعتباره بوابة عودة النازحين، وهو الملف (التطبيع) الذي يشكّل عنصر إسقاطٍ لكل مرتكزات تسوية 2016 التي قامتْ على تكريسِ «ربْط النزاع» بإزاء الملفّات الخلافية وأبرزها الموقف من الأزمة السورية وتحييد لبنان الرسمي عنها، كما يُعتبر «الترجمة» لمنطق «انتصار» المحور الإيراني ونظام الرئيس بشار الأسد الذي يعتمده «حزب الله» وتالياً المدخل لتكريس إلحاق لبنان بـ «قوس النفوذ الإيراني» في المنطقة قبل أن تكتمل «سيبة» التوازنات الناظمة للحلّ السياسي في سورية وأن تتطاير «تشظياتٌ» مُمَزِّقة للخرائط من مسار الاستقلال الكردي الذي انطلق من العراق. وفيما كانت تقارير تشير إلى مخطَّط يرمي للإطاحة بحكومة الحريري بما يوجّه ضربة قاصمة للفريق المناهض لـ «حزب الله»، وما يعبّر عنه من امتدادات عربية ودولية، وذلك قبل أشهر من انتخابات نيابيةٍ تخاض بحساباتِ رغبة الحزب في الإمساك رسمياً بمفاصل السلطة ليصبح بيده «الختْم» الاستراتيجي كما مفاتيح اللعبة الداخلية وأيضاً بحسابات الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن همْساً ساد في الكواليس حول احتمال أن يكون مأزق قانون سلسلة الرتب والرواتب وكيفية دفع الزيادات على الأجور التي يلحظها بمثابة «الفتيل» الذي يُراد إبقاؤه قابلاً للاشتعال في سياق الضغط على الحريري على قاعدة واحد من خياريْن: إما عدم التصدي لمسار التطبيع مع النظام السوري الذي اتّخذ منحى بارزاً بعد لقاء صهر الرئيس اللبناني وزير الخارجية جبران باسيل مع نظيره السوري وليد المعلّم في نيويورك وكلام عون عن مشاورات قيد البحث مع الحكومة السورية حيال مسألة النازحين، وهذا سيعني استنزاف رئيس الحكومة في حاضنته الشعبية وتهديد رصيده في الانتخابات النيابية المقبلة. والخيار الثاني ترْك ملف «السلسلة» ينفجر بين يديْه فيتكرر سيناريو «ثورة الدواليب» العام 1992 التي أطاحت بحكومة الرئيس عمر كرامي، وتالياً وضْع البلاد أمام سيناريوات مشابهة. وإذ يفترض أن تشهد جلسة مجلس الوزراء اليوم تظهير الخيْط الأبيض من الأسود حيال خلفيات «مأزق السلسلة» وتمويلها وإذا كانت فعلاً عالقة فقط عند الصراع المفتوح بين عون ورئيس البرلمان نبيه بري أم أنها متروكة لتتحول «كرة نار» تلتهم الحكومة، فإن بعض القريبين من الحريري حاولوا التخفيف من وطأة الكلام عن «انكسار الجرّة» مع رئيس الجمهورية وفريقه معتبرين أن من المبكر الحديث عن «فضّ الشراكة» مع عون، فيما كانت بارزة حركة الزيارات اللبنانية في اتجاه المملكة العربية السعودية التي وصل إليها بالتزامن، ومن دون تنسيق بينهما، كل من رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع (بدأ منها جولة خارجية) ورئيس حزب «الكتائب» سامي الجميّل. وأثارتْ هذه الحركة اهتمام أوساط سياسية، وسط معلومات عن زيارات مرتقبة لشخصيات لبنانية أخرى في معرض التشاور مع الرياض في آفاق الوضع في المنطقة وسبل «حفظ التوازن» في المعادلة اللبنانية. وفي حين ترى مصادر مطلعة أن من الصعوبة بمكان رسْم تصوّر فعلي لمسار الأمور في لبنان، في ظل اقتناع بعض الدوائر بأن لـ «حزب الله» مصلحة في بقاء الحكومة الحالية التي «تأكل من صحن» الحريري شعبياً وأنه يفضّل الإمعان في «تعرية» رئيس الحكومة في بيئته تحت سقف التسوية الحالية مستذكرة ما سبق ان أعلنه بري قبل فترة «شو بدنا أحسن من هيك حكومة»، تَعتبر أوساط حكومية مناهِضة لـ «حزب الله» أن ما يجري لا يمكن وضعه حتى الساعة في سياق قرار بالإطاحة بالحكومة. وتقول هذه الأوساط لـ «الراي» ان «حزب الله» بدأ منذ نحو شهريْن بإدخال عناصر جديدة الى «الستاتيكو» الذي عبّرتْ عنه تسوية 2016، أهمّها الدفع نحو التطبيع مع النظام السوري وجعْله مدخل إعادة النازحين، لافتة الى ان فريق رئيس الحكومة وحزب «القوات اللبنانية» كما الحزب «التقدمي الاشتراكي» (النائب وليد جنبلاط) يعملون على منْع إعطاء هذا المسار أيّ غطاء رسمي، معلنة انه «إذا برزتْ محاولات لفرْض هذا التطبيع، فعندها لكل حادث حديث، والاستقالة تكون عندها في يد مكوّناتٍ بارزة في الحكومة مناهِضة لـ (حزب الله)». وإذ أكدت الأوساط نفسها «اننا نتعاطى على طريقة كل خطوة بخطوة»، سألتْ «هل من مصلحة عون الذي جاء الى الحكم على قاعدة انه جسر تواصل بين (8 و14 آذار) أن يخسر هذا الموقع، فتعود الاصطفافات والاشتباك السياسي الى ما كان عليه منذ 2005 وحتى تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام؟»، مشددة على ان «اي استقالة لنا من الحكومة لن تكون فقط للاستقالة بل ستعني العودة الى المواجهة مع (حزب الله) تحت عنوان رفْض المساكنة معه كمشروعٍ وكسلاحٍ غير شرعي»، ومشيرة الى أنه بعد لقاء باسيل - المعلّم والمواقف المعترضة بوضوح من الوزير نهاد المشنوق و«القوات اللبنانية» فإن الرسالة يفترض أن تكون وصلت بأن الإمعان في هذا المسار سيكون مكلفاً، «ولنرَ ماذا سيحصل».
مشاركة :