كثيرون من تستهويهم السياسة، وكثيرون يفتون فيها بغير علم، وكثيرون يقعون في أخطاء أحكامهم العشوائية العاطفية التي لا تنظر إلى الأمور إلا بعين واحدة لا ترى إلا جانبا واحدا من قضية متعددة الجوانب، ومختلفة المظهر والمخبر، ومتنوعة الشكل والمضمون، ومع ما قد يعتري هذه الأحكام من ضعف وهوان وعشوائية، فإن أصحابها يصرون عليها دون أن تتوفر لديهم المبررات المقنعة، لهذا الإصرار العنيد، وأمام هذه الكثرة من أصحاب المواقف العاطفية بأحكامها العشوائية، نجد قلة من الناس المتفائلين والواقعيين والمؤمنين بضرورة التخلي عن النظارات السوداء حين النظر إلى تلك الأمور، والداعين إلى التفاؤل بأن الخير يغلب على الشر في نهاية الأمر، وكلما طالت يد الشر أصبحت يد الخير أطول، وكلما امتد الليل، اقترب الفجر أكثر. ما يدعو إلى هذا القول هو ما تزدحم به أجهزة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، من آراء ارتجالية سوداوية متشائمة في السياسة، وهذه الآراء غالبا لا تبنى على استقراء الواقع واستشراف المستقبل، ولكنها تبنى عادة على مواقف شخصية موغلة في الجهل بالسياسة وأسرارها الخفية، أو على تبعية حزبية أو طائفية أو مذهبية مطلقة، لا تراعي سوى مصلحة المنتمين لهذه الأحزاب أو الطوائف أو المذاهب، ودون أن تأخذ في الحسبان المصالح الوطنية أو القومية كما لا تهتم بمصالح الأمة وأهدافها، ودون أن تراعي التحديات الشرسة ولا المحبطات الحادة التي تفرضها الظروف الإقليمية والدولية في المنطقة، وقد قيل إن السياسة ما دخلت في أمر إلا أفسدته. وكما ترتكب الأخطاء والممارسات والجرائم باسم الدين لتشوه صورته، كذلك ترتكب التجاوزات، والانتقادات الحادة، باسم حب الوطن، وهي تجاوزات وانتقادات لا يمكن أن تعبر عن حب للوطن، بقدر ما تعبر الرغبة في زرع بوادر الخلافات وعدم الثقة بين أفراد الوطن الواحد، وهذه نتيجة تؤدي إلى تصدع الوحدة الوطنية وبث الشكوك وعدم الثقة بين أبناء الوطن، سواء شاء أصحاب تلك التجاوزات أم أبوا. ولا شك أن مثل هذه الخلافات غالبا ما تصرف المواطنين عن المشاركة في البناء التنموي، لانشغالهم بأمور ليس لهم فيها ناقة ولا بعير، ليس هذا فقط، بل فيها من الإساءة للوطن ومنجزاته ما يجعل الانشغال بها نوعا من التفكير غير السوي، بعد ان أصبحت السياسة مثل كرة القدم، تفرق أكثر مما تجمع، وتؤدي إلى التناحر والتعصب أكثر مما تؤدي إلى المحبة والتفاهم، وكما ينقسم مؤيدوا كرة القدم في البيت الواحد لتأييد هذا الفريق أو ذاك، كذلك ينشغل المهتمون بالسياسة بخلافاتهم الحادة التي قد تتسرب للبيت الواحد أيضا، والنتيجة هي خصام بين أفراد الأسرة الواحدة قد يؤدي إلى القطيعة والتناحر فيما بينهم. طبعا هذا لا يعني حظر الخوض في الأمور السياسية، ما دام ذلك ينطلق عن وعي وفهم وإدراك لهذه السياسة، لكن ما لا يمكن قبوله هو الإساءة لرموز الوطن، وقاماته الشامخة، ورجاله الأوفياء، وانجازاته التنموي، وذلك انتصارا لمذهب أو طائفة أو حزب، أو انحيازا لموقف شخصي أملته مصالحه خاصة، مع أن منجزات الوطن هي ملك لأبنائه الذين يفترض أن يسهموا في إنجازها لا في الإساءة إليها، وحمايتها من رياح الفساد العاتية، لا تركها دون معين على مواجهة تحديات الواقع وسلبياته، ومن أوجب الواجبات أن يكون المواطن جنديا، مهمته حماية الوطن ومنجزاته، وصد الإساءات التي قد يتعرض لها رجاله الأوفياء، الحريصون على مصلحته، والمدافعون عن سمعته في أحلك الأوقات وأشدها حدة وقسوة، ومن للوطن غير أبنائه ليسهموا في تنميته، وليحافظوا على منجزات هذه التنمية، كلٌ من موقع عمله، ومنطلق تفكيره، وأسباب قناعاته، لحماية أمن البلاد، وسلامة المنطقة، وازدهار العالم، وبذلك فإن رياح السياسة لا يمكن أن تزعزع الثقة بالوطن ومسؤوليه ومنجزاته.
مشاركة :