محمد رُضا أحاط نقاد السينما الأجانب فيلم «دنكيرك» باهتمام مستحق، ليس فقط لكونه فيلماً حربياً من تلك النوعية التي لم تعد «هوليوود» تنتجها إلا لماماً، بل أيضاً، وأساساً، لأن مخرجه هو السينمائي كريستوفر نولان المعروف بأسلوبه الثري بصرياً وفكرياً، والذي حققت بعض أفلامه أفضل وأعلى الإيرادات ومن بينها، بالطبع، ثلاثيته من مسلسل «باتمان» التي أسند بطولتها إلى كرستيان بايل ما بين 2008 و2012فيلم نولان الأحدث «دنكيرك» لم يخيب الآمال مطلقاً. معظم النقاد المشهود لهم بطول التجربة والمعرفة أحبوه. بعض الجدد في المهنة، أولئك الذين وُلدوا في عصر الإنترنت وجدوا الفيلم بارداً «لا يتبنى وجهة نظر»، بكلمات أخرى بحثوا عن حبكة عاطفية فلم يجدوها.كريستوفر نولان كان دائماً مفاجئاً في ماذا يريد قوله وكيف يقوله. حبّه للسينما ولد باكراً. في سن السابعة من عمره، أي سنة 1977، بدأ التصوير مستخدماً كاميرا «سوبر 8»، لكنه لم يكن راضياً عن الاكتفاء بفعل التصوير فقط. شعر بأنه يريد أن يخلق حركة ما.في العاشرة من العمر بدأ، ولعدة سنوات، بصنع مجموعة من الأفلام التي حرّك فيها دمىً وألعاباً أمام عدسة الكاميرا. الحكايات التي ألّفها كانت بسيطة التنفيذ. طموحه كان أكبر من قدراته وكان لا بد له أن يكمل مراحل حياته من دون القفز فوقها.حين أصبح شابّاً اختار دخول معهد لدراسة اللغة الإنجليزية عوض أن يدخل معهداً لدراسة السينما، لكنه كان يعلم أن المعهد المعروف University College London لديه فرع سينمائي مزوّد بكل ما يحتاجه الهاوي ليحترف: كاميرات، عدسات، أدوات صوت وطاولات مونتاج. هناك حقق أعماله الفعلية الأولى. هي أفلام قصيرة بدأها في العام 1996 واعتبرها في مجموعها مجرد دقائق محدودة من أحلام أكبر.مع مطلع القرن الحادي والعشرين، كان نولان ما زال مجهولاً. كان حقق فيلمه الطويل الأول Following في وطنه بريطانيا ولم يجد الفرصة الصحيحة للعرض. قليل جداً أولئك الذين شاهدوه وأقل منهم من اعتبره شهادة ولادة لموهبة جديدة.إزاء ذلك، لم يجد نولان بداً من الانتقال باكراً إلى «هوليوود» فأقدم على ذلك سنة 1999 وكله قناعة بأنه إذا ما أراد النجاح فإن ذلك لا يمكن أن يقع إلا في عاصمة السينما العالمية ذاتها.لم يضع ثانية واحدة، بل انطلق في العمل وما هي إلا فترة قصيرة حتى قف وراء الكاميرا ليحقق أول فيلم له هناك. عمل غريب الشأن عنوانه «ميمنتو».وضع كريستوفر نولان السيناريو مع شقيقه جوناثان، وتدور الأحداث حول رجل أصيب بفقدان الذاكرة فقداناً جزئياً يجعله غير قادر على تذكر الأحداث القريبة. وهذا لا يمنعه من استخدام اللحظة الراهنة ليعود منها إلى الوراء ليتبيّن هوية المجرم الذي قتل زوجته.ليس بطل الفيلم (جاي بيرس) هو وحده من يقدم الذي يقرر أن يعود الرجوع من اللحظة إلى سابقاتها، بل المخرج أيضاً، فالفيلم يبدأ بدوره من النهاية ليعود أدراجه إلى ما قبلها. بذا، كشف نولان عن حبّه لاكتشاف عوالم مقلوبة وعن رغبة في سرد ما هو غير متوقّع بطريقة غير متوقّعة. رشح الفيلم لحفنة من الجوائز بينها أوسكار أفضل سيناريو ونال تقديراً واسعاً من بينها جائزة «معهد الفيلم الأمريكي» لأفضل سيناريو، وجائزة أفضل فيلم من «جمعية الفيلم البريطاني المستقل» وأخرى من جمعيات نقدية مختلفة.قاد نجاح هذا الفيلم نولان لتحقيق ثانٍ عن رجل آخر في مأزق كبير وهو «أرق» Insomnia سنة 2002. هذه المرّة لدينا التحري آل باتشينو الذي ينتقل من المدينة الكبيرة إلى بلدة في ألاسكا ويعاني من أرق دائم لا يستطيع النوم بسببه. كل شيء حوله يتداعى بما في ذلك وضعه ومداركه وحالته النفسية وجسده المنهك. ثم ها هو، خلال مطاردته المجرم الذي انتدب لكشفه، يُصيب برصاصه زميله ويقتله ثم يحاول التستّر على فعلته.حتى هذه المرحلة، ما زال نولان على الأرض وسنرى كيف سيرتفع عنها تدريجياً ليحلّق اليوم بين النجوم. في العام 2004 قررت شركة «وورنر» تسليمه مقاليد واحد من أكبر إنتاجاتها وأكثرها صعوبة لتحقيق الفيلم الذي سيعيد شخصية باتمان إلى الواجهة.قبل ذلك كانت الشركة موّلت عودة الرجل الوطواط (باتمان) إلى الشاشات الكبيرة في الثمانينات (الشخصية كانت من حقوق شركة «فوكس» في الستينات ثم تخلت عنها) مسندة المهمة إلى المخرج تيم بيرتون ليحقق فيلماً عن تلك الشخصية التي وضعها بوب كاين في مجلات «الكوميكس في الأربعينات». هذا جلب للدور مايكل كيتون ووزّع أدوار الشر على جاك نيكلسون وجاك بالانس وترايسي وولتر وأنجز فيلماً ناجحاً جمع 410 ملايين دولار حول العالم.لكن تأثير وجودة هذه السلسلة خفا في منتصف التسعينات عندما تسلم الإخراج جوول شوماكر وحوّل المغامرة إلى مرتع ترفيهي مباشر. «وورنر» رسمت فاصلاً زمنياً قبل أن تجد أن كريستوفر نولان، المبرهن عن رؤيته الفنية الخاصّة، يتمتع بما هو مطلوب ليمنح «باتمان» إطلالة كبيرة جديدة وناجحة.لم يخيب كريستوفر نولان هذا الاعتقاد فحقق «باتمان يبدأ» سنة 2005 ودلف منه إلى الجزء الثاني «الفارس الداكن»، 2008 ثم الثالث، «صعود الفارس الداكن»، 2012 الذي جلب أكثر من مليار دولار حول العالم. بمقارنة الفيلم الثالث من السلسلة بالجزأين الأول والثاني، يدرك المرء كيف انكبّ المخرج على تطوير ما لديه من قدرات، التي كانت لا تشكو من الهوان أو الإفلاس ليصنع أفضل ثلاثية ممكنة حول هذه الشخصية. كل فيلم من هذه الأفلام جاء أفضل من سابقه. ولا واحد منها اعتبر أن النجاح أمر مضمون فاستكان إلى معطياته.في موقع ما بين هذه الأفلام أخرج نولان فيلماً آخر جيداً ومثيراً للاهتمام بعنوان «هيبة» (prestig. بطله (هيو جاكمان) يعمد إلى السحر وألعاب الخفّة ويجد أن عليه، ليستمر، التفوق على منافس له يقوم بالألعاب ذاتها.بعد هذا الفيلم أنجز سنة 2010 «تمهيد» ويدور في رحى فكرة رجل يسرق مصرفاً مستخدماً ما سمّاه «تقنية المشاركة في الحلم». ومع أن الأحداث لم تحتوِ على شخصيات خارقة للعادة، إلا أن موضوعه حلّق في جوانب غريبة ومسائل مثيرة وجديدة الطرح من أهمها السؤال حول ما إذا فلت زمام تلك التقنيات الحديثة التي نعيشها فأصبحت حياتنا كلها أحلاماً أو هواجس خيالية. كذلك عمد نولان إلى توظيف المؤثرات التقنية والجرافيك على نحو غير مسبوق. المشاهد التي نرى فيها المدن انقلبت رأساً على عقب تعبيراً عن عالم فقد توازنه كاملاً، لا تُنسى. وعندما وجدت «وورنر» أن هذا الفيلم أنجز 817 مليون دولار عالمياً أخبرته بأنها ستنتج له أي فيلم يريده. وما أراده هو آخر أعماله إلى اليوم: فيلم خيالي- علمي فضائي يقع في المستقبل عنوانه «بين النجوم».أفلام نولان ليست مشتتة من دون خط يجمعها، وليست مجرد أفلام تعتمد على الخيال والتقنيات الضخمة، بل هي نتيجة لبنة صلبة ولو مطواعة تحمل في طيّاتها بحثاً في الإنسان وفي العالم والمجتمعات. حتى «باتمان» هنا ليس باتمان في أي من الأفلام السينمائية قبل الستينات أو بعدها. نولان لا يستطيع إلا أن يتحدّث عن كل شيء ممكن جمعه من دون خطابية أو مباشرة تحت سقف فيلم واحد. وسقفه دائماً عال ومرتفع بات من الصعب على الآخرين اللحاق به إليه.فيلمه الجديد حربي بالتأكيد، لكنه ليس عن بطولات جنود، بل عن تضحيات الناس العاديين. وما يميّزه هو بالتحديد ما قامت عليه سينما هذا المخرج: تقديم الأحداث الكبيرة بأحجام أكبر لأن السينما في باله صُنعت لكي لا تكون واقعية بل مدهشة.في «دنكيرك» يستند إلى حقائق تاريخية ليصنع منها ملحمة سينمائية خالصة، ففي مطلع سنوات احتلال ألمانيا لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، أدرك الجيش البريطاني أنه لن يستطيع إيقاف الجحافل الألمانية فجمع جنوده على الساحل الفرنسي لإعادتهم إلى بريطانيا. هذا الفعل المنطقي تحوّل إلى كارثة بعدما وجد الألمان الفرصة سانحة لقصف هذا التجمع والبواخر الحربية التي تنقل مئات ألوف الجنود معاً.الفيلم، الذي طرح على نطاق توزيعي عالمي، هو من بين الصفات الأهم التي تتمتع بها السينما، فكل شيء هنا، سواء على صعيد الدراما أو البصريات، أكبر حجماً مما تستطيع الشاشات البديلة حالياً توفيره.
مشاركة :